أيها
الناس الأعزاء .. السلام عليكم.
مرة أخرى
إخترت أن أخاطبكم بهذه اللفظة الجامعة لا
من أجل المساواة بين الجنسين كما أوضحت
سابقا من على هذا المنبر، وإنما لأفضي منه
إلى حديث اليوم، فالناس هم عماد المجتمع
المدني، والإنسان مدني بطبعه، ومن هنا
ندرك دلالة مخاطبة القرآن الكريم للناس
بالتحديد ذكرا وانثى وشعوبا وقبائل
وأديانا أن يقيموا نظامهم السياسي حسب
مصالحهم باعتبارهم المعنيين بشئون دنياهم،
ومن هنا نفهم أن الخطاب القرآني الموجه
للناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
ليس تعبيرا وجدانيا وإنما هو ترتيل تشريعي
دفعهم إلى صياغة نظامهم المدني الإنتخابي
يوم السقيفة بشكل يتوافق مع الثوابت
الدينية ويتوائم ويوائم بينها وبينه، تبعا
لقول رسول الله (أنتم أخبر بشئون دنياكم),
وتطبيقا لقاعدة "حيثما تكون المصلحة يكون
شرع الله".
وعليه فإن انطلاق التشريعات السياسية- بعد
وفاة الرسول الأعظم- من المسجد بالذات
إنما هو تأكيد على مدنيتها، فهذا المسجد
لم يكن مكانا للصلاة ولا منبرا للوعظ فقط،
بل كان مكانا للتشريعات المدنية أيضا، فيه
يشرع الناس أمورهم، ويرسمون مستقبلهم،
وفيه تتم البيعة السياسة، وفيه يُقسِمُ
الخليفة على الولاء للناس، وفيه تعلن
الحرب، وفيه يقر السلم، وفيه يقام التدريس
الديني والفلسفي، وفيه نشأ علم الكلام
ومنه انطلقت الفلسفة. أكثر من هذا، لم تكن
خطبة الجمعة والعيدين وعظا دينيا،كما هو
عليه اليوم، وإنما كانت تدور حول ما يشغل
الناس في أسبوع الناس ذاك، وكان النبي
العظيم يتلمس ما يجري في الحارات والأسواق
وما تأتي به الأخبار فيخطب الناس فيها،
وفي عهد الراشدين كانت الخطبة مجالا لحوار
يجري بينهم وبين أي معترض من الناس من
انثى أو ذكر
(1).
أكثر من هذا، كان إذا حزب الناس أمر أرتفع
صوت أحدهم مع على المسجد: الصلاة جامعة
فيتقاطر الناس للنقاش والحوار. كان "أبوبكر"
إذا لم يجد سابقة لـ "رسول الله" في قضية
من القضايا، جمع الناس لها فيجتهدون لها
تشريعا، وكان "عمر" إذا لم يجد سابقة لـ
"رسول الله" ولا لما سبق أن أقرها الناس
دعا الناس فاجتهدوا لها تشريعا. وهكذا
راكم المسجد المدني تشريعاته المدنية.
يؤكد
اختيار الخليفة الراشدي مدنية هذه
التشريعات، فالناس قد اختاروا خليفتهم
ونمط نظامهم يوم السقيفة بدون نص نبوي، ثم
يعمق ذلك أن اختيارهم له تم لا على أساس
الأعلم والأفضل والأتقى، وإنما على أساس
الأنسب للمرحلة، وهذه الطريقة من ثم صرفت
حق الفتوى وحق الحدود وحق المال منه إلى
مؤسسات ثلاث: مالية وقضائية وسياسية، في
ظل شورى ملزمة، وفي ظل اجتهاد كان له فضل
ربط فهم النصوص الثابتة بمقاصد الشريعة
وغاياتها، وبهذه الرؤية انداحت أمام
الإجتهاد فيما فيه نص مساحات شاسعة. لقد
نقلت قاعدة "مقاصد الشريعة"، و الإجتهاد
"فيما فيه نص" التشريعات المدنية نقلة
واسعة ورائعة. وسنلاحظ أنه عندما تم
التساهل في اختيار الأكفاء، واختل دور
المراقبة، وضعف أمر الشورى، وسُلبت الأمة
بعض حقوقها –في عهد "عثمان" " ولم يكن
المجتمع المدني قد تثبتت أساساته- خرَّ
الصرح عليهم جميعا.
ويبلغ
التأكيد على مدنية التشريعات ذروته ماصدر
عن "صحيفة المدينة" عن حق حرية المعتقد،
فقد اعتبرت هذه الصحيفة "المسلمين"
و"اليهود" و قبيلة "أوس بن مناه" قبل
إسلامها أمةً واحدةً من دون الناس، وكفلت
لهم حريتهم الدينية، وضمنت لهم معاملاتهم
بموجب معتقداتهم.
قد يعترض
على وجود مثل هذه الحرية بما سمي حروب
الردة، وقد راجت هذه التسمية رواجا واسعا،
ولكن علينا أن ننظر في تاريخ هذه التسمية
على ضوء النصوص التاريخية وسنجد أنها لم
تسم حينذاك حروب ردة، بل سميت حروب ما نعي
الزكاة، بل أن "عمر" وقف ضد هذه الحرب
باعتبار أن منع الزكاة لا يخرج القوم من
الإسلام، بهذا حاجج "عمر" "أبا بكر"
وحاججه غير "عمر" ولكن الأكثرية وقفت مع "ابي
بكر". وأكثر من هذا فإن حروب مدعي النبوة
لم تسم حروب ردة، وفيها نوع من الردة
وكانت أولى بالتسمية، ولكنها سميت باسمها
حروب مدعي النبوة، ومن هنا نفهم أن دوافع
الحربين كانت سياسية من أجل صيانة
الوحدة العربية التي انجزت لأول مرة،
والتي لو لم يحافظ عليها لعاد العرب فتاتا
على مائدة القوى الكبرى، في حين أنهم في
طريقهم إلى أن يصبحوا الأكبر والأقوى،
ويلاحظ مؤرخ النصوص أن حرب مانعي الزكاة
إنما سميت بالردة في فترة متأخرة عندما
سنت الدولة الذراعية التي لبست ثياب الدين
عنوة: ضرائب كثيرة وجائرة واعتبرت
مقاومتها عملا مرتدا لتنفذ منها إلى
استباحة الأموال. وقد يحتج هنا بقتل
المرتد، ولكن ليس في القرآن آية واحدة
تأمر بقتل المرتد، وانما الموجود فيه
والمنصوص عليه ترك حسابه على الله، وليس
في الأحاديث الصحيحة كذلك سوى حديث ضعيف
(من بدل دينه فاقتلوه) وهو على ضعفه يمنح
كل دين قتل أبنائه إذا خرجوا منه، وهو فوق
ذلك يناقض آية المحاسبة الربانية،
بالإضافة إلى ذلك من الناحية الواقعية فلم
يقتل واحد في زمن النبي والخلفاء، وإنما
جاء هذا الفقه عندما وجدت السلطة وعلماء
السلطة في أصحاب الفكر الحر والإرادة
الحرة خطرا علىفكر الجبر الذي أقاموه فكان
ضحيته عدة مفكرين من المسلمين وليس من
غيرهم.
إذن هناك
مجتمع مدني أو بداية تخلق مجتمع مدني، لكن
لم يقدر لها النمو بل البقاء فما لبث أن
انطفأ بعد توهج قصير، وحل مكانه مجتمع
فردي أصبح الخليفة فيه خليفة الله والمال
مال الله، وهو القاضي والخازن، طوى القضاء
تحت عبائته، ووضع المال في خزانته، يهب
منها لم يشاء ما يشا ويحرمه عمن يشأ، ألغى
حق الانتخاب، جمد الشورى الملزمة وباختصار
سد كل الينابيع الدفقة، وكانت النتيجة أن
فقد مجتمع المسجد المدني مدنيته وحواره
وشوراه، حتى أصبحت خطبة الجمعة وعظا رتيبا
مملا، وتملقا مقيتا صارخا، وأصبح الكلام
حال الخطبتين محرم اثابكم الله، بعد أن
كان صوت المسجد اثناء الخطبة جهيرا، وبفعل
قائمة من المتغيرات هدأت الأصوات إلا صوت
الحكم الفردي يعربد في الساحة المقهورة.
بعد هذا العرض السريع لايهمني هنا أن أقرر
أن مناخ مجتمع المسجد المدني هذا يرحب
بالسكيولارية
Secularism
أم لا؟ ولن أضيع الوقت في هذه العجالة في
الحديث عن التفسيرات الكثيرة والمتناقضة
التي ألصقت بها، فليس هناك لغط دار حول
تعريف مصطلح ما، كما دار حولها بحيث أصبحت
السكيولارية في ظل تلك التعريفات معضلة
بين طرفين أحدهما يتغنى بها أناء الليل،
والأخر يوسعها هجوا أطراف النهار، وأنا لا
اريد في هذه الوقفة القصيرة أن أحمل
قيثاري فأنفخ فيه أغنيات الثناء، ولا اصب
فيها غاضبات الهجاء، وإنما سأتناول القضية
مجردا منهما، بدون أي هوى مسبق مع أوضد،
وأنا لا أجد نفسي كمسلم في مشكلة معها لأن
الإسلام مفتوح الأبواب على كل أنواع
المعرفة، مشرع النوافذ على كل العلوم؛
انفتح على "الرومان" وعلى "اليونان" وهما
وثنيتان، واخذمنهما مايريد، وعلى أديان
"فارس" و"الهند" وقبس منهما ما يفيد.
وإذن فمن الخير أن نبحث عن العوائق التي
حالت دون استبيانها بوضوح وأول هذه
العوائق هو ترجمة المصطلح إلى العلمانية
حيث قاد إلى تعريفات تاهت اشرعتها بين
علمية وعالمية،
وقائل بالفصل بين الدين والسياسة فقط،
وقائل بعدائها المطلق والحاد للدين،
الأمر الذي أسقطها مضرجة بتفاسيرها
وابعدها عن أهدافها، وككل مصطلح لا ينضبط
داخل إطاره، ولا يمثل مدلوله، فإنه يخلق
إطاراً آخر لايمثله، ولا يعبر عنه، ومن ثم
يتم التعامل مع شيء آخر. والمعنى إن لم
يلبس مدلوله الحقيقي يبقي غائما وعرضة
للتفسيرات المتعارضة. كما أن اختلاف
التعريف يؤدي إلى إختلاف التوصيف
والتوظيف. فمن ظن أنها ضد الدين أباح
لنفسه الهجوم على المعتقدات، وقد هاجمت
سيدة من على هذا المنبر الحج والحجيج باسم
السكولارية، لها الحق أن تناقش كما تريد،
ولكن ليس لها الحق أن تدعي أنها تنطق باسم
السكيولارية. فالسكيولارية ليست ضد ما
يعتقد الناس بكل تأكيد. إن الهند
السكيولارية يوجد به آلاف الأديان فمنهم
من يعبد النجم والبقر والشجر والطيور، فلم
يمنعهم ذلك من أن يقيموا نظاما سكيولاريا
يتعبد الناس فيه كما يشاءون في ظل رئيس
"سيخي" متمسك بدينه لكنه يحكم في ظل
السكيولارية ويبقي مع ذلك مظاهر ملابسه
الدينيه.
ومن
المفاهيم الخاطئة ظن البعض أن السكيولارية
هي ابتلاع للدين كله، حتى سكيولارية
"بريطانيا" المعتدلة التي وضعت ملكها
الزمني على رأس كنيستها الروحية، رأى فيها
العلامة "المودوي" رحمه الله -بالرغم من
تشابهها مع الحالة الإسلامية- خطرا على
مسلمي وامنا لصالح الهندوس فرفضها وأطلق
"الحاكمية" تخرجا منها، مع أن العكس هو
الصحيح، إي أن الأقليات هي الأكثر استفادة
من السكيولارية، وفي "مصر" رفض "الأزهر
الشريف" -إلا قلة من هؤلاء الأئمة لم
يكونوا علماء سلطة- هذه السكيولارية
المعتدلة بفعل ثقافة التديين السياسي الذي
تشبعوا به.
جاء تعريف
المحب الغال والمبغض القال- في لحظة من
لحظات تلاقي المتناقضات العجيبة النادرة
الحدوث- للسكيولارية" بأنها فصلُ الدين عن
السياسة فقط، عائقا من هذه العوائق. كما
سنرى.
بالإضافة
إلى ذلك نجد معظم السيكولاريين العرب
مسلمين ومسيحيين لم يستطيعوا الانفكاك من
عمق التديين القابع في أعماقهما، حيث يخرج
المستمع في أكثر الأوقات من حوار
السكيولاريَيَن المسلم والمسيحي بانطباع
واحد هو أن الكنيسة والمسجد يتجادلان
داخل أعماقهما بصوت خفيض، بحيث يلتقط
المستمع ترتيل المسجد ورنين النواقيس
تتجاوب به نفساهما، ويترك انطباعا بأن
الحديث عنها ليس إلا شعارا سطحيا للإعلان
عن تقدمية هذا وتخلف ذاك، أو عن مصلحة
لهذا وغبن على ذاك لا عن علم متين بما
يناديان به. وهكذا يمكن اعتبار التديين-وليس
الدين- مازال كامنا في الأعماق عند
الجميع: الحاكم والمحكوم والمتبني
والرافض، فالتديين ماسك بالخناق.
ولابد أن
نضع بين العوائق قبول المسلمين لها بالذات
شعورهم بأن المسيحية جاءت في ظل حضارة
قائمة، فلم تتفاعل معها في البداية، ولما
بدأت الحضارة الغربية في النهوض كانت
الكنيسة على غير وفاق مع حقائق العلم
فتصادما مرة ثانية، أما الإسلام فخلق
حضارته وأحيا حضارات أخرى ونقلها إلى
حضارة قادمة. وكانت تجربته رائعة في تبني
العلوم اليونانية والفارسية والهندية،
وكان للعقل دور بنّاء في خلق العلوم
الإنسانية فتراكمت المعارف وتبلورت
"الكمونية" و "الطفرة" المعتزلية
و"الإحالة والإستحالة" المطرفية، وأعلن
"بشر بن المعتمر" -الذي عاش في النصف
الثاني من القرن الثاني الهجري- عن قدرة
الإنسان أن يخلق إنسانا سويا لا أن
يستنسخه فقط، إذا توفرت له اسبابه
العلمية، وهذا يعني أن هؤلاء العلماء قد
اخضعوا المقدس للبحث من البداية، وأنهم
ليسوا بحاجة إلى سكيولارية غربية. ويصعب
عليه أن يقبل انفصالا عن دين خلق حضارة
مجيدة لا لشيئ إلا لأن تجربة مخالفة لها
ظروفها الخاصة قد قامت بها.
وأيضا يكمن هذا العائق عند المسلمين، في
حالتين، الأولى: بسبب بوجود مسيرة تاريخ
مضاد لتاريخ التجربة الغربية، فالذي حدث
في الإسلام أنه مزج منذ البداية بين
الروحي والزمني بتوازن فذ فلم يطغى الروحي
على الزمني، وحكم "القرآن" و "الاجتهاد"
هذه المعادلة بتوازن فريد، بينما فصل
"عيسى" عليه السلام مالله لله عن ما لقيصر
لقيصر بشكل قاطع من البداية، فجاءت
السكيولارية بعد ان انحرف المسار فصححت
الخطا الكبير الذي وقعت فيه الكنيسة عندما
احتوت على ما لله وما لقيصر معا. والثانية
أن المسلمين سبقوا الغرب في فصل الزمني عن
الروحي ولكن بدون أن يستفيدوا منه كما
استفاد الغرب، لأن الغرب أطلق عقله من
عقاله في لحظة يقظة حياة جديدة، في فترة
جمد المسلمون عقولهم وحرّموا "الإجتهاد"
في بداية لحظة انهيار. وسبق هذه النتيجة
سلسلة من الإجراءات ابتداء من الفترة
الأموية التي ديينت النظام السياسي وفرضت
الجبرية على تصرفات الإنسان بحيث يغدو
انتصار القوة هو الإرادة الإلهية، ومن ثم
تحويل الخلافة من عقد إجتماعي إلى قيد
ديني أصبحت فيه الخلافة دينا مفروضا،
لاعقدا اجتماعيا، وبلغ هذا المسار التقديس
للخليفة الدمية حده الأقصى على يد "بني
بويه"