السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 
النمسـا اليـوممفكـــــرةخدمات & طوارئ النمسـا الوطـنإخترنـا لكإعلانــــــاتحـوار صـريحمجتمــــــعهيئة التحـريرمواقع إلكترونيةتواصـــل
 
 

الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ
ج2

تقديم : د. محمد الرمادى
فيينا / 2023

 :54 الطبيعي والشاذ والمنحرف
﴿ رُوَايَّةُ : « „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ” ».﴾
[ ٣. ] „.
اَلْـجُزْءُ اَلْثَالِثُ ”

„ مِن الطبيعي عند الحيوانات بڪل أجناسها المنظورة اليوم والمرئية.. والمعلومة لدينا أو حتىٰ المجهولة لنا لحين أڪتشافها ومن ثم معرفتها وإدراڪها.. أو التي -في سابق الزمان- لم تسطع العيش لعدم موامئتها المناخ السائد في ذلك العصر فـ تعثرت في بيئتها فـ لم تحصل علىٰ ما يڪفيها من قوتها اليومي والضروري لتبقىٰ حية وتتمڪن من العيش.. فـ لم تقدر علىٰ البقاء فابيدت.. واندثرت من فوق سطح الأرض وصارت في خبر ڪان أو مازال يبحث عنها علماء الآثار بين طبقات الأرض..” ؛
.. ثم شهقَ شهقةً عاليةً ڪأن جدران الغرفة الصغيرة في ذاك البناء القديم أهتزت.. وڪأني نظرت في عينه بريق الموت ورأيت لمعان سيفه المسلط على رقاب الموجود الفاني.. الناس والحيوان.. وأبصرته ڪأن قد حضرت لديه ثوان الاحتضار.. ثم ڪأنه أفاق من غيبوبةٍ شاهدتها للحظات..
.. وأڪمل : „ و.. مِن الطبيعي أن تقوم.. تلك الڪائنات بوظائف حياتها اليومية وفق ترڪيبتها الأصلية ” ؛
وتوقف „ رفيقي ” مرة ثانية عن إتمام ڪلامه وڪأن لسانه تلعثم عن تڪملة الحديث..
ثم عاود القول بهدوء جم وڪأنه ملكَ زمام الحديث.. ڪأحد علماء علم الأحياء فـ
قال : „ ومِن حيث الدقة في التعبير تقوم تلك الحيوانات البرية.. المُستأنسة والتي تعيش بيننا.. في بيوتنا أو بالقرب منا.. أو في حظائر المواشي والأنعام أو في الأدغال أو في جحور.. أو أعالي الجبال وفوق الأشجار.. أو تلك التي تعيش في أعماق المياه.. النهرية.. منها.. والتي تعيش في الماء العذب أو البحرية منها والتي بيئتها الماء المالح.. بأصنافها المتعددة.. وأحجامها المختلفة الدقيقة منها والهائلة.. أو التي تطير في الهواء.. الأليف منها أو الجوارح ” ؛
وڪأنه اڪتفي بهذا العرض الموجز في الإخبار.. فسڪتَ قليلاً.. وبدأت تدور عينَاه في أجواء الغرفة الصغيرة.. وڪأنها محاولة منه لـ تجميع بقايا الفڪرة التي لم تڪتمل.. إما لم تڪتمل في ذهنه أو لم تڪتمل من حيث الإلقاء والعرض.. فـ هو يسعى ٰ لـ إتمام تلك المقدمة..
ثم رفع صوتَه عالياً بالقول : „ جميعها تقوم بأعمالها اليومية وفق حاجاتها العضوية.. والتي وجدت بها.. ووفق غرائزها المدفونة بين جوانحها.. ” ؛
ثم أخذ يشرح لي.. معتبرني طالباً في بداية المرحلة الإعدادية.. أو دون مستواها.. إذ أن „ رفيقي ” مولع بالمقدمات الطويلة والتمهيد المسهب وهو يعتبر بحق أحد تلاميذ مدرسة الوزير هيكل ومقالته المشهورة الطويلة في الأهرام طبعة يوم الجمعة.. العطلة الرسمية للبلاد والراحة الإسبوعية لبعض فئات المجتمع المِصري.. إذ أن مقالته تسحوذ علىٰ صفحة ڪاملة أو أڪثر من العدد الإسبوعي.. وهو -رفيقي- أحد أبناء عصر الموسوعات..
وقال متمماً لمقالته: „ .. الحاجات العضوية : مِن تنفس ومأڪل؛ بغض الطرف عن ڪيفيته المعقدة أو بساطته في تناوله أو مطاردة فريسة لعدة ڪيلومترات ومن ثم افتراسها.. ومِن مشرب.. وإخراج فضلات أينما وجد أو حلَّ.. ثم راحة بدنية وبيات فنوم..” ؛.
وڪأنه زاح من فوق ڪاهله طود عظيم وتنفس الصعداء.. وبسرعة متناهية أڪمل حديثه فــ
قال : „ .. وأيضاً وفق مظاهر غرائز تلك الموجودات وهاتيك الحيوانات.. والتي رُڪبت فيها أو بتعبير آخر وفق « „ الفطرة ” » التي جُبِلت عليها.. فلا تحيد عن تلك الترڪيبة الأصلية في مزاولة حياتها وإيجادها الوجودي وتڪاثرها النوعي أو نموها الطبيعي في طبيعة تألفها فتناسبها وتعيش فيها.. إلا قليلاً منها وهي حالة نادرة ” ؛
ثم نظر إليَّ بتمعن وڪأنه يريد أن يستوضح مدىٰ فهمي أو درجة إدراڪي لما قاله وقام مشڪورا بشرحه لي.. و
قال شامخاً رأسه وقد أَخَذَهُ الزَّهْوُ والكِبْرُ، والفَخْرُ، والتِّيهُ.. بـ زَهوِ العالم القدير.. وأيضا بتواضع الجاهل الحقير : „ هنا يجب وقفة سريعة ولن نطيل الحديث فيها معك ڪي لا أرهقك معي .. ” ؛
وڪان يجب عليَّ أن أشڪره علىٰ هذا العطف من جنابه العالي.. ولڪني.. قلتُ في قرارة نفسي وإثناء عرضه لهذه المقدمة.. والتي لم أدرك تماماً بعد ما قصد „ رفيقي ” من هذه الإطالة.. ولڪنها ديدانه واسلوبه في العرض وطريقته في الحديث.. فـ هو يعطي مقدمة طويلة نوعاً ما ليصل من خلالها للموضوع الأساسي الذي يريد الحديث عنه.. ڪمقدمة توضيحية..
ثم تساءل.. وڪأنه يتحدث مع نفسه : „ .. فهل هذه الڪائنات وتلك الموجودات بڪافة أشڪالها وأنواعها وأحجامها وفوائدها التي تدرك.. ومضرها وإن لم ندر فائدتها إلا قليلاً.. ” ؛
ثم توقف عن الحديث ونظرَ مرةً ثانيةً لي بتمعن ڪأنه يريد ان يستنطقني ما فهمته بإشارة لبيب أو علامة فهيم.. و
قال مردفاً : „ .. أتلك الڪائنات.. هذه الموجودات.. أهي مخلوقة لـ خالق دون معونة.. وقادر دون نصير.. ومبدع دون وزير.. ومصور دون مثال سابق.. ومنشأ من عدم بإرادته دون إرادة غيره.. ورازق دون أن ينقص من رزقه شئ ما.. وأنها جميعاً خُلقت مِن عدم.. فـ لم يسبق لها وجود.. وهذه وجهة نظر تُعتبر.. خاصةً عند المتدينين العقلاء.. ” ؛
وسڪت لحيظة ڪأنه يريد لفت إنتباه عقل السامع وتجميع قوىٰ إدراك المستمع.. و
قال: „ .. أم أن الطبيعة(!) أوجدتها.. هڪذا.. علىٰ شاڪلتها.. دون معرفة سابقة أو لاحقة لدورها في الدورة الحياتية.. ولماذا أوجدتها(!).. وهذا قد يسميه البعض حالة عبثية في الإيجاد.. وهذا لا يصح أن يڪون.. ” ؛
وأڪمل سريعاً دون إلتقاط الأنفاس: „ ثم.. حدثت طفرات مختلفة.. ڪما يدعي البعض.. وتطورات متنوعة.. ڪما يسميها آخرون.. فــ وجدت ڪائنات جديدة تحمل خواص جيدة وجينات أفضل.. إذ أنها تطورت من أصل ڪائن قديم.. له بعض العيوب أو ڪثير منها.. إما عيوب في الخلقة أو في الترڪيبة الأصلية.. فجرىٰ تعديل.. وتم تحسين.. ووجد إضافة.. أو عيوب في القدرة الحياتية ومواءمة البيئة والبقاء عيشاً في الطبيعة القاسية.. ويعتمد هنا -عند البعض- نظرية : « „ البقاء للأصلح ” ».. ولأسباب غير مدرڪة حسية وغير مثبتة علمياً.. وهذه أيضا وجهة نظر.. لڪن ينقصها الدليل العلمي والبحث الميداني.. والإثبات العقلي.. وإن ڪنا نترك المجال لعلماء الطبيعة والأحياء لدراسة نمط حياة الحيوان وما توصلوا إليه من ملاحظات.. إذ أن الطبيعة موجودة بمفراداتها وهي جزء من تلك الموجودات.. وهي غير محددة التعريف.. فمن أوجد الطبيعة(!؟).. أم أنها أوجدت نفسها بنفسها.. ويظهر أن الطبيعة ليست بالدقة في الإيجاد والقدرة علىٰ التنوع في الموجودات ” ؛
وسڪت قليلاً وڪأنه اراد استراحة صغيرة.. ثم أمسك بزمام الحديث مرةً ثانية و
قال.. بعد أن اشرقت فوق جبينه شمس الحقيقة.. وعلاه بهاء الدليل وقوته.. وسطوح الحجة المقنعة المسڪتة للخصم.. مع أن المعلوم -لي وله.. انه لا يوجد ثالث معنا في الغرفة ذات التدفئة السيئة.. ولڪنها بقايا التربية الناصرية في داخله والتي تشبع بها منذ نعومة أظافره - إذ لا يوجد -بالفعل- أمامه خصم ڪي يسڪته.
قال : „ .. ڪـ مثال : جناح بعوضة.. أو جناح ذبابة.. أو جناح فراشة.. الثلاثة يحملهن جناح في رغبة الإنتقال من خلال الطيران في الهواء.. من مڪان إلىٰ آخر.. فــ وظيفة الجناح -قطعاً- إمڪانية القدرة علىٰ الطيران..” ؛
وسڪت
ثم قال موجهاً لي سؤالا أو استفسارا : „ أليس ڪذلك !؟.. ” ؛
ثم أڪمل : „ .. فــ لماذا هذه الصورة الرائعة من الألوان في جناح الفراشة دون سواها.. فـ مَن الذي أعطىٰ للطبيعة هذه الفڪرة!؟.. وماذا تريد الطبيعة لنا إثباته.. أقدرةُ التنوع والإيجاد والإبداع.. أم الطبيعة نفسها جزء مڪمل للـ فراشة نفسها وليست الطبيعة هي التي أوجدتها.. ثم يأتي سؤال وهو ما تعريف الطبيعة.. وهل وجدت هڪذا صدفة أي أنها أوجدت نفسها بنفسها.. ” ؛
ويستريح لحظة من عناء البرهان الذي أراد أن يقدمه لي.. ثم
يقول : „ وهنا نعود للقضية الأولىٰ أن هناك خالق واجب الوجود هو الأول الذي ليس قبله شئ أوجد هذه الطبيعة بمرڪباتها وأجزائها ومخلوقاتها وموجوداتها.. وڪل ما هو موجود فيها من جماد وحيوان ونبات وإنسان.. ” ؛
توقف „ رفيقي ” عن الحديث وظهرت حبات عرق جديدة علىٰ جبينه.. ثم
أڪمل قائلاً : „ ومن هنا يمڪن أن نقسم الناس إلىٰ مؤمن بوجود خالق مدبر.. ونوع آخر ينڪر وجود خالق مدبر.. وفي الإنڪار إثبات وجود من أنڪره البعض؛ وإلا فڪيف ينڪر من لا وجود له؛ ثم تأتي معضلة عند المؤمنين فـ منهم من يختلط عليه الأمر فيضيف لهذا الخالق المدبر مِن بنات أفڪاره الفاسدة وتصورات عقله القاصر.. يضيف أسماء وصفات ونعوت وأشڪال وتصورات.. فيقترب قليلا أو ڪثيرا مِن أهل اليونان القدماء بتشبيه هذا الخالق بالمخلوق وإعطاء ڪل قوة يخشاها أو يرغب فيها اسم آله ڪـ آله الحرب أو آله الحب.. أو يهبط الإنسان بذهنه ويتدحرج في جهالات عقله ڪما حدث عند عبدة الأصنام ومَن يبجل الأوثان فيصنع مِن خشب أو حجارة أو نحاس آلهً لـ نفسه ڪـ قوم الخليل إبراهيم أو من سجد للـ لات وعبد العزىٰ وقدس مناة الثالثة الآخرى.. في جاهلية العرب وجهلهم.. أو مَن عبد النيران.. أو مَن عبد النجوم والڪواڪب.. أو البقر والجرذان والثعابين والحيات ” ؛
: „ ومن الطريف أن يتسمّىٰ إنسان بنوع من الحيوانات أو تلك الڪائنات أو الموجودات.. مثل : « مها » ؛ أو : « مريم » ؛ أو : « نرجس » ؛ أو : « ياسمين » ؛ أو : « مُزنة » ؛ أو : « ريحانه » ؛ أو : « لِينة » ؛ أو : « قطر الندىٰ » ؛ ـ أو فقط : « ندىٰ » ؛ أو : « „ شَجَرةُ الدُّرّ [(*)]” » ؛أو « فهد » ؛ أو : « ديب » ؛ أو : « عصفور » ؛ أو : « رعد” » ؛ أو : « „ أسد ” » ؛ والأڪثر طرافة وأنتَ تذڪر جيداً زميل دراسه لقبه : « بهائم ».. وهذه قائمة طويلة ذڪرت لكَ ما أعرفه منها الأن ” ؛
تبسمتُ له تعجباً.. ولم أدرِ ماذا أقول له !؟.. غير أنه جرىٰ في خلدي أن خلف هذه المقدمة موضوع ما هام وڪبير عنده يريد أن يتحدث عنه.. دون أن يفصح بصريح العبارة عنهّ! ..
... و.. ترڪته يڪمل ما يريد قوله.. فنحن ما زلنا في بدايةِ ليلٍ طويلٍ من ليالي شتاءِ أوربا البارد والقارص.. فقد ڪان هذا الحديث في بداية شهر ديسمبر -علىٰ ما أذڪر-.. ولا اذڪر الأن العام.. ولڪنة في بداية سنوات الدراسة التمهيدية بجامعة ڤيينا.. والتحضيرية لنيل الشهادة العليا.. وهي تلك الأيام الخوالي.. إذ ليس لدينا مسئوليات ڪبيرة أو صغيرة أو مشغوليات عظيمة سوىٰ الدراسة والإنتهاء منها في اسرع وقت.. للعودة مرة ثانية لــ مِصرنا الحبيبة.. أم الدنيا.. وخاصة « „ الْإِسْكَنْدَريَّة ” ».. مدينة الثغر والتي تطل علىٰ البحيرة المتوسطية.. بشمسها الدافئة علىٰ مدار العام وعطر ريحها الآتي من بحرها الأبيض.. فلا زوجة لآحدنا ولا صاحبة للتنزه بها أو رفيقة فراش.. لڪن يفضل أن نبقىٰ في ڤيينا.. وقد هطلت الثلوج فوق أرصفة الشوارع وعلىٰ خط ترام رقم [(٦)] ڪما وغطت نتفات الثلج الأشجار وخبئت تحتها السيارات وأسطح البيوت وتصاعد دخان التدفئة من أعلىٰ العمارات.. وتغيب شمس النهار في حدود الرابعة أو بعدها بدقائق.. وڪنا في مساء يوم سبت سيصبح علينا يوم أحد.. راحة تماما لا دراسة ولا عمل فــ: „ رفيقي ”؛ ڪان يعمل في مصلحة تتبع إدارة ولاية ڤيينا تسمىٰ :« „ WIEGAST ” » أربع ساعات بعد نهاية الدوام في مدرسة إعداد طلبة التعليم العالي..
فـ قال : „ وحين أخترع الإنسان آلهاً تسمىٰ بعبوديته له مثل : « عبداللات » ؛ أو : « عبد العُزىٰ » ؛ أو عبودية للإنسان.. ومن العبيد ڪـ مَن تسمىٰ بـ : « عبدالمطلب » ؛ أو : « عبدالنور » ؛ أو : « عبدالمسيح » ؛ وعند بعض المسلمين يسمىٰ المرء بـ : « عبدالنبي » ؛ أو : « عبدالرسول » ؛
ثم اردف „ رفيقي ” قائلاً : „ الظاهر أن لا مشاحة في التسمية.. فـ عند بعض طوائف المسلمين في عصور الانحطاط وأزمان التخلف تسمىٰ بعضهم مثلا بـ : « عبدالحسين » ؛ أو : « عبدالرضا[(**)] ” ؛
.. ثم اعتدل في جلسته وقال متباهياً : « بيد أن رسول الإسلام عَدَّل المقاييس السائدة آنذاك.. وغيّر القيّم المعمول بها بين الناس.. وبدل العقائد الفاسدة عند العرب والعجم بما يتناسب مع عقل الإنسان ويطمئن قلبه فتهدأ نفسه وروحه.. ڪما عدّل المفاهيم وبدّل القناعات.. حتىٰ غيَّر أسماء الأشخاص والقبائل[(***)] ” ؛
ثم توقف „ رفيقي ” عن الحديث..
و
قال بأدب جم : „ يا ريت تعملنا يا ڪَبِير ڪوبيتين شاي علىٰ مزاجك المعدول.. بتاع حضرتك العالي بـ ميّه بيضا وڪتر سڪر التحلية.. وأهو ده سڪر خواجات موش تبع سڪر التموين.. وبإيدك إللي عايزه تتباس دون خلع الملابس لأن الدنيا سقعة واللباس..وتجيبهولي لغاية عندي لأني ڪسلان أقوم ” ؛
وڪأن „ رفيقي ” يستحضر الأن إلقاء موضوع السهرة ويرتب قضية الليلة!
.. و.. بالفعل أحضرت ڪوبيتين الشاي.. لي ڪوب شاي سادة بدون حليب وله بالحليب..
وبعد أن جلسنا وأمامنا الشاي الساخن مع قطع من الحلويات..
قال: „ الإنسان.. سواء المعاصر -منا- اليوم.. أو أول إنسان مخلوق وجد علىٰ سطح المعمورة.. هذا الإنسان قام بڪافة وظائفه الجسدية بصورة طبيعية عادية.. واستخدم أعضاءَه البدنية الظاهرة بشڪل طبيعي عادي.. وهذا -الإنسان : ذڪر ڪان أو أنثىٰ- يقوم بـ قضاء حاجاته العضوية اللازمة والضرورة لبقاء حياته ودوام بقاءه إلىٰ حين لحظة موته من مَآڪل ومشارب والذهاب إلىٰ بيت الخلاء لتفريغ المعدة أو المثانة من الفضلات المضرة له ومن التنفس والنوم لسويعات.. ثم أن هناك أمر آخر يتقارب معه مع الحيوان.. ألا وهو إشباع مظاهر غرائزه؛ لڪن المهم بشڪل سوي دون المنحرف أو الخطأ أو الشاذ.. إذ أن الغرائز لها مظاهر مِن خلالها يقوم الإنسان بإشباع هذه الغرائز المغروزة في ترڪيبته الأصلية.. والموجودة بصفته الآدمية فيه بصورة طبيعية.. وفي أصل نشأته ” ؛
ثم توقف تماماً عن الحديث.. وأخذ رشفة من ڪوب الشاي الذي أمامه وقضم قطعة صغيرة من الحلوىٰ.. ” ؛
ثم أڪمل بصوت يعتصره الألم فقال بصوت فيه حشرجة : „ .. و.. لعل ما سعت إليه بعض النظم الوضعية والمبادئ العالمية النفعية من الترڪيز علىٰ بعض تلك المظاهر عما سواها ڪـ غريزة النوع.. وبدءً من الترڪيز عمداً علىٰ آحدىٰ مظاهرها.. أي ميل الذڪر للأنثىٰ.. وميل الأنثىٰ للذڪر.. وإعلاء شأن الميل الجنسي.. بل والدعوة الصريحة للممارسته دون قيد أو شرط.. ثم قبول العديد من افراد المجتمع بتلك العلاقة خارج مؤسسة الزواج.. تحت مسمىٰ : « صاحبــ(ــة) » ؛ أو : « رفيقــ(ــة) ».. فالترڪيز تم علىٰ الجنس والميل الجنسي دون بقية مظاهر تلك الغريزة.. ڪـ الأمومة والابوة.. أو حب الوالدين والإخوة.. والعطف أو الحنان.. ووفاء الصديقـ(ـة).. ما أدىٰ إلىٰ فوضىٰ إجتماعية.. وما فَتح بيوت الدعارة المرخصة من قِبل الحڪومة؛ والڪشف الدوري الطبي علىٰ المومسات لضمان سلامتهن من الأمراض المعدية أو أمراض الجهاز التناسلي.. إلا من باب هذا الفساد الأخلاقي والإنحلال الإجتماعي؛ وقد أخبر آحدهم أن مثل علب الليل تلك تساعد علىٰ أيقاف حالات الاغتصاب والتعدي علىٰ الأطفال.. بل من العجب العجاب أن في عهد مَلك مِصر والسودان ڪانت هناك بيوت مرخصة لهذه الفاحشة ” ؛
...
ثم توقف عن الحديث؛ وأظن أن ملاحظته الآخيرة أوجعته ڪثيراً.. وأيضاً لما ظهر علىٰ ملامح وجهي من استغراب لما يقول أو استفهام لما حڪاه..
ثم قال : „ أن تسهيل عملية الإفساد بين المراهقين وعملية الإنحلال بين الشباب والشابات ڪـ ديسڪوهات.. وصالات الرقص الساخن والموسيقى الصاخبة.. تخرب البيوت وتضعضع قوة الشعوب وترهق ميزانية الدول بمعالجة أمراض تستحدث نتيجة لتلك الفوضى الأخلاقية ” ؛
ثم قال: „ نتيجة ضعف المؤسسة الدينية أو إرغامها أن توضع نفسها علىٰ رف المهملات داخل ڪافة المجتمعات وإهمالها من قبل جهاز الحڪم والحڪومة.. وإعطائها دورا ثانوياً في المناسبات والتي يطلق عليها دينية.. ڪـ مولد نبي أو يوم ميلاد رسول والأعياد السنوية ومواسم الحج والعمرة والزيارة وموالد أولياء الله الصالحين أو الطالحين.. جعل المؤسسة الدينية تفقد بريقها اللامع في معالجة ڪافة قضايا المجتمع ومشاڪل الأفراد ومسائل الناس.. وڪان فصل الدين عن الدولة قد يصلح في منطقة بعينها وهو مفسدة في منطقة آخرىٰ ” » ؛
توقف برهة من الوقت ونظر إلىٰ ڪوب الشاي أمامه.. وڪأنه يحاول أن يتذڪر حادثة ما أو موقف جرىٰ له.. ثم برقت عيناه وڪأنهما سحابتان تم تعبأتهما أو هما بالفعل مُزن دافق ڪـ: سَحابٍ يُمطر أو يمڪن أن يؤدِّي إلىٰ سقوط مطر..
ثم قال: „ الله -تعالىٰ- يعطيها العافية والصحة وطولة العمر.. فقد قالت لي مراراً قبل مغادرتي العاصمة الصيفية لـ مِصر : « „ مَن زَنىٰ فِي غُرْبَتِهِ .. أَرْجَعَهُ اللهُ خَائِبَاً ” «.. ” ؛
وأدرڪت على الفور أنه قصد بجملتها هذه الخاجة الوالدة..
ثم ضحك عالياً..
وقال : „ طيب.. مَن يزني في وطنه أو في بلده أو حتى في الإسكندرية.. حيرجع إلى بيته.. آيه.. برضه خائباً ” ؛
ثم اعتدل في مقعده.. و
قال: „ هناك قوم ابتلينا بيهم منذ عدة قرون وفي بداية التاريخ البشري.. قوم أرسل الله -سبحانه وتعالىٰ شأنه- لهم نبياً.. سيدنا : « „ لوط ” » ؛ عليه السلام وعلى رسولنا الصلاة والسلام لينبهم ويعرفهم مصيبة هذه الفاحشة ثم أثبتها لنا جميعاً في قرآن محفوظ ڪي نتعظ.. ومع ذلك صارت لتلك الفئة ومنذ سنوات عدة لهم شوڪة وصوت مسموع وتسعىٰ أحزاب سياسية ليبرالية لـ ڪسب ودهم في الإنتخابات ويقام لهم أحتفالات ومهراجانات.. فئة المثلية ” ؛
ثم علق قائلاً: „ الإشباع لحاجة عضوية آدمية ضرورة حياتية وإلزامية معيشية بدون إشباعها يموت الإنسان ويفنىٰ.. أما مظهر من مظاهر الغريزة عند الإنسان فلا يترتب علىٰ عدم إشباعها سوىٰ قلق نفسي وأضطراب.. هذا إن ڪانت دائما في بؤرة الشعور ومرڪز الإهتمام؛ والغرائز لا تتعدىٰ ثلاث.. فـ الغرائز عند الإنسان هي: -) غريزة البقاء.. و -) غريزة النوع -) وغريزة التدين.. وڪل منها لها مظاهرها والتي من خلالها يتم الإشباع والهدوء النفسي وطمأنينة القلب ” ؛
ثم وقف متأملاً شيئا في فضاء خاص به ثم عاود الحديث ..
فــ
قال: „ الفرق بين الحاجة العضوية وبين مظاهر الغريزة المتعددة يظهر من جانبين؛ الأول منهما جهة الإثارة؛ فالعامل الفسيولوجي العصبي إثارته داخلية.. من داخل جسد الإنسان ومن داخل بدنه.. وهذا متعلق بالحاجة العضوية فقط.. ” ؛
ثم نظر إليَّ قائلاً : „ أتدرك ما اقول!؟؟ ” ؛
فهززتُ رأسي بالموافقة والرغبة في إنهاء حديثه أو حتىٰ إڪماله
فقال مباشرة : „ أما مظاهر الغريزة فـ إثارتها خارجية إما بمشاهدة ورؤية المثير فتحصل الإثارة.. إما باستحضار صورة المثير أو تذڪره.. لذا فصور نراها ورؤية مشاهد وتتبع أفلام ومواقع تثير مظاهر الغريزة عن المرء منا.. هذا جانب.. أما الجانب الثاني.. فهي مسألة الإشباع.. فعند إنعدام إشباع الحاجة العضوية يؤدي هذا إلىٰ الهلاك والموت ڪـ الطعام والشراب والمنام وإخراج الفضلات.. أما الغريزة فإن عدم إشباعها لا يؤدي إلىٰ الموت، بل يؤدي إلىٰ الاضطراب والتوتر والقلق، وڪم من البشر عاشوا محرومين من الزواج مثلاً، أو من قلة المال، أو من عدم الإنجاب، أو غير ذلك، فالذي نشأ عندهم نتيجة ذلك إنما هو تنغيص في العيش وهمّ في النهار واضطراب نفسي وقلق ، ولم يحصل أن مات أحد من الناس نتيجة حرمانه من إشباع مظهر غريزي ” ؛
ثم نظر إليَّ بتمعن وڪأنه يتساءل..
ثم
قال : „ والعقل عند الإنسان أو التفڪير أو الإدراك أو فهم الأشياء علىٰ واقعها ومسماها هو الذي يميزه عن غيره من بقية المخلوقات وبقية الڪائنات الموجودات.. وبالتالي يميز سلوڪه تجاه الأشياء والأفعال والتصرفات والأقوال والأشخاص.. أو ما يسمىٰ بالميل الغريزي أو الميل المشاعري أو العاطفي.. ويجعله واعياً مستنيراً راقياً ناهضاً، أو مقابل ذلك يجعله منحطاً في اسفل سافلين.. وفي درك المنبوذين ومجموعة الفاسدين.. وبه -العقل.. الإدراك الفهم الصحيح- يحڪم علىٰ الأشياء حوله.. بالاقتراب منها أو الابتعاد عنها.. وبه يتخذ قراراته بالقيام بالفعل أو الإمتناع عنه.. وبه يحدد ڪيفية إشباعه لـ حاجاته العضوية.. وڪيفية إشباعه لـ مظاهر غرائزه.. وبه يختار بين المشبعات المتاحة والإشباعات المتوفرة أمامه حين تتعدد أو تختلف فيختار الأصلح والأنفع.. ومن هنا جاء الإشباع السوي الصائب وفق العقل وهو العادي الطبيعي بإعتباره إنساناً.. بشراً سوي الخلقة معتدل القامة.. أو الإشباع الخاطئ.. أو الإشباع الشاذ.. أو الإشباع المنحرف الفاسد.. ” ؛
توقف „ رفيقي ” عن الحديث واڪتفى بهذا القدر من الڪلام.. وبالفعل وجدتُ حباتِ عرقٍ فوق جبينه.. ونحن في موسم الشتاء الأوروبي القارص والثلوج من حولنا.. فلم أرد أن استفسر عن الدافع لـ موضوع هذه الليلة.. وإن سخن إلقاءه أجواء الغرفة ذات الحيطان الباردة لسوء بنائها..
ثم تمدد „ رفيقي ” في فراشه.. ممسڪناً بـ نسخة جيدة من القرآن الڪريم بأوراقه الفاخرة.. أرسله إليه والده بالبريد المسجل.. ثم
قلت له: „ هل ستقرأ القرآن العظيم بصوت عالٍ أو منخفض ڪأنك تُسمع نفسك!؟ ” ؛
فـ رد مسرعاً : „ آيــــــوه.. يا جدعان.. نسيت.. أتوضأ.. ” ؛
ثم قال بصوت ڪله خشوع : „ ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيم﴾ ﴿فِي كِتَابٍ مَّكْنُون﴾ ﴿لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون﴾ ﴿تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين﴾ ” ؛
فقلت له : „ طيب.. أتوضى.. وبعدين سمعني قراءتك ” ؛..
وإلتجاءنا معا إلىٰ ڪتاب رب العالمين.. فهو الحافظ من الشيطان الرجيم ومن وسوسة شياطين الإنس والجن أجمعين!
وبتنا ليلتنا ڪل منا يرتدي بلوفر سميك خوفا من البرد!
ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ــــ
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــ
[(*)] شَجَرُ الدُّرّ : اسم علم مؤنث عربي، مركب بالإضافة، وتسميتهم بـ شجرة الدر خاطئ، لأن العرب كانوا يسمون جواريهم بأسماء الجمع غالباً مثل قطر الندى. والمعنى: الجميلة اللامعة مثل الأشجار التي تحمل الدرّ واللآلئ بدلاً من الثمار. وهو على اسم مملوكة كانت أم ولد للصالح أيوب المملوكي (638هـ -647هـ). وهي أرمنية الأصل، وحكمت مصر بعد وفاة زوجها وتكنَّتْ بأمِّ الخليل، فكانت أول مملوك حكم مصر والشام. قتلت سنة (655هـ)، وبها بدأ حكم المماليك.
[(**)] عبدالرِّضا : اسم علم مذكر عربي مركب بالإضافة. والرضا هو الإمام الثامن عند الشيعة. وهم يكثرون من التسمية به، كما يسمون غلام رضا. فهذا اصل اسم عبد الرِّضا .
[(***)] منهم سفينة وسهل.. 6 صحابة غير النبي أسماءهم تعرف عليهم : 1- الحسن؛.2- زيد الخير؛ 3- سفينة؛ 4- زينب بنت أبي سلمة؛ 5- جميلة بنت ثابت؛ 6- "حزن". وآخرين.. سافرد لهم بحثاً كاملاً!.
ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــ
﴿ رُوَايَّةُ : « „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ” ».﴾
[(٣)] اَلْـجُزْءُ اَلْثَالِثُ: [ 54 ] « الطبيعي والشاذ.. العادي والمنحرف.. الخطأ والصواب » .
« وَرَقَةٌ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ ».
فيينا Vienne - لحظة إطلالها علىٰ الدانوب الأزرق
(د .الْفَخْرُ؛ الْإِسْــڪــَنْدَرَانِيُّ؛ ثم الْمِصْرِيُّ مُحَمَّدُ فَخْرُالدينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ .. الرَّمَادِيُّ مِنْ الْإِسْڪَنْدَرِيَّةِ)
‏الأربعاء‏، 24‏ جمادى الأولى‏، 1445هــ ~ ‏06‏/12‏/2023‏ 06:30:23 م


ج1 2022 >>

عَوْدٌ عَلىٰ بَدْءٍ
„.[ ٣. ] اَلْـجُزْءُ اَلْثَالِثُ ‟:

تَمْهِيدٌ :
» ٣. ١« أَزعمُ أنَّ أول موطأِ قدمٍ لـ أولِ بشرٍ إنساني.. « رجل » في تأريخ البشرية مَرَّ بشبه القارة الهندية..
أو أُهبِط من جنَّة الرضوان إلىٰ أرضٍ يقالُ لَها دَحنا بينَ مَڪَّةَ والطَّائفِ.. فـ هو إذن.. -صدقا وعدلا وحقاً- يعتبر أول « رجل » « مشرقي».. تطؤ قدميه أرض في بقعة مقدسة
أو أنه أُهبِط بالصفا في مڪة المڪرمة، وأهبطت -هي- بالمروة..
فـ «آدمُ».. هو أول « رجل » ڪامل « مشرقي».. وهو ايضاً بلا منازع أول عاشق.. وبالقطع لـ أول امرأة ڪاملة في تأريخ الإنسانية -ايضاً-.. تلك المرأة الوحيدة له.. إذ لا يوجد قبلها نساء فـ هي.. باليقين المرأة الواحدة.. والمنفردة له.. والتي خَلقها بارئها في أجمل صورة وأبهىٰ منظر وأحسن تقويم..
فـ هي أرق ملمساً من النسيم العليل.. وأطيب ريحاً من الورود في أڪمامها.. وأعطر الزهر في أڪنافها.. والرياحين في بساتينها..
فـ المرأة الأولىٰ -هذه.. فــ لــ نسمها « حواء »- أعطر طيباً.. من عطور باريس المصنعة من أزهار الهند.. وأطيب ريحاً من جميع أريج الورود المتفتحة اليانعة وثمار الفواڪة الطازجة ذات الرائحة الزڪية..
فـ هي قد جمعت ڪل أطياف الرَوَائحُ الطيبة بين أعطافها..
خَلقها مبدعها خصيصاً له ومِن نفسه.. إذ أنها جزء مِن ڪيانه الوجودي.. ومڪملة لـ نفسه فـ تحيط بـ روحه وقطعة مِن ذاته الحياتية.. لــ يَصْلحَ أن يَسڪن إليها بعد شقاء يوم متعب ونهار مرهق.. فتزيل بـ حلو حروف ڪلماتها عرق جسده وتغسل بأنفاسها الزڪية تعب بدنه.. فـ يطمئن قلبه بجوارها وتهنأ نفسه برفقتها ويسعد فؤاده بوجودها فـ تهدأ نفسه.. وترتاح روحه.. سواء بــ شفطةٍ من خلال ڪوب عصير دُفِأَ قليلاً في الشتاء القارص أو بُرد نوعا ما في الصيف القائظ.. خصيصاً له بـ القرب من قلبها الحنون.. جهزته له إثناء غيابه عنها فاختلطَ ما به مِن ريق فمها العذب الطاهر حين تذوقته..
أو قضمه لـ قطعة خبز جهزتها بيدها ودست في عجينة السِّخْتِيتُ - الدقيقُ الأبيضَ الخالص؛ الذي أحضرة مَلك الملآئڪة جبريل.. حبات قمح - دست أناملها فتصبب عرقها النقي الطاهر فوق الخبيز قبل ماء زمزم الطاهر.. وماءُ زمزم لما شرب له..
أما عجينُها المخبوز فـ يبلع خبزها بـ مخلوط العصير مع ريقها فـ لـ سبب بقاء حياته تطعمه طالما له في الحياة رزق مڪتوب.. ولـ علة وجوده ما دام ڪُتبَ له البقاء إلىٰ حين من الدهر معلوم..
يُطعم من أنامل يدها وتسقيه بشفتيها!
فــ «هي» خُلقت مِن جنسه الإنساني.. وصُنعت مِن ترڪيبته الأصلية الآدمية.. فـ أوجدها صَانعها من ڪينونته الأساسية البشرية.. وأصلحها بارئها « أنثىٰ » ڪاملة الأوصاف.. له.. وحده.. لـ تڪون شريڪة خطواته في فڪره إثناء غيابها عنه.. فتسير معه مثل ظله وترافقه أينما حلَّ أو أرتحل..
وحين وجودها الفعلي: البدني والروحي والجسدي والنفسي والعاطفي والمشاعري إثناء تواجدها بـ جواره ووقت مرقده في فراشه.. الذي تدفئه بشعرها الغزير حين يعود إليها.. فـ هي في جميع لحظات أوقاته معه.. ابداً لا تغيب!
فــ هي.. -« حواء »- تتفق معه تماماً في أصل التڪوين الإنساني.. وتتفق معه في أصل البناء الخِلقي البشري.. فـ ينسجما معاً عند سماع مقطوعة موسيقية ألفها خصيصاً لهما هطيل أمطار المُزن العوالي.. وعند غناء تصريف الرياح بين النخيل العالي وصوت زَقزَقة عصفور وتغريد طيور وارتفاع صوتهما الشجي فوق أغضان الشجر المثمر وخرير جريان ماء نهر.. أو تلاطم أمواج بحر..
.. ثم خلدها مَن أراد.. فـ نقشٌ علىٰ الحجر في أول ڪتابة رمزية علىٰ الجُلْمود الصلد ڪي يَسهل عليهما لـ يثبت اللحظة لـ يڪون بينهما مودة ويصلح أن يتبادلا مشاعرهما الحقة وأحاسيسهما الصادقة وعواطفهما النابعة من قلب عاشق وفؤاد ولهان..
ڪلٌ تجاه الآخر.. فـ يلتقيان فڪرياً -قبل الجسد- ويقتربان ذهنياً -قبل البدن- فيوجد بينهما أرضية عقلية يتشارڪان أطراف الحديث الحلو.. فـ يتعانقان وجودياً ويتلامسان بدنياً ويقتربان جسدياً فـ يحدث الدفء العاطفي فـ يعيشان في مناخ مشاعري رائع فـ تنبت بذور الحب في بيئة حاضنة وتربة صالحة لـ ذرية قادمة مع التجانس العقلي والتفاهم الذهني.. والإنسجام الجسدي..
.. فــ يڪمل ڪل منهما الآخر في جانب يوجد منفردا عند آحدهما.. لا يملڪه الآخر.. إذ يستقل ڪل منهما بجانب إنساني محض يخصه وجانب خِلقي بشري يمتلڪه.. يختلف عند الآخر.. فــ تُغلق الدائرة الإنسانية بهما وتڪتمل الدائرة البشرية عليهما.. فـ تڪتمل الصفتان البشريتان -الذڪر والأنثىٰ مع.. وبڪل ما بينهما من إختلاف وخلاف وتضاد- فـ يحقق ڪل منهما للآخر الڪمال الآدمي المنشود وتتحقق إرادة الخالق البارئ المصور عند لحظة الخَلق والتنشأة والتڪوين.. في مشيئته بإعمار الأرض.. وفق قانون السماء وتعاليم خالق وصانع الإنسان..
فـ يتعاملا معاً بـ إحساس ينبع من قلب بشري محب ممتلؤٌ بـ الرحمة والعطف والحنان.. فـ يعيشا -معاً- في حالةٍ من الإنسجام النفسي والهدوء العاطفي والتناغم الوجداني والإحساس المشاعري والتقارب الفڪري والتلاقح العقلي.. والاقتراب الراقي البدني..
.. هذا الإنسان الأول -«آدم»- الذي اختلس لها -المرأة الأولىٰ.. والأنثىٰ الأولىٰ والزوجة الوحيدة وأم ذريته في ڪل حياته الرجولية وڪامل أيامه الذڪورية- ..
اختلس لها بذورَ زهور عطرها.. وأمسك بيده قبل مغادرة جنَّة الرحمن قطفات رياحين معطرة.. وجلب معه أعوادَ ورود تتفتح ڪل صباح تحت رمش « حواء » لحظة الاستيقاظ.. اختلسها من الجِنَّان العلوية التي مڪث فيها إلا قليلا.. وقد ڪان بها لا يظمأ.. وڪان فيها لا يَعرىٰ.. ولا يَجوع.. وڪان فيها لا يَشقىٰ ولا يَضحىٰ.. مع الإنذار المبڪر والتنبيه الواضح بإتخاذ الشيطان لهما عدواً..
تغيير الحال وتبدل المآل..
اختلس لها ڪل هذا والمزيد مما لا أعلمه عند ڪتابة هذه السطور..
اختلسها قبل أن يهبط « هو » لـ أرض العناء والاختبار والبلاء.. والتعب والارهاق والشقاء.. وملازمة للـ شيطان الرجيم.. الذي لُعن مِن مَن رفع السماء ..
ولعل سلوته الوحيدة أنها.. -« حواء »-.. بجانبه.. وهي دائما بجواره!
فـ غرسها -جميعاَ- في بستان «حواء» بحديقتها الأمامية.. اسفل شباك محبته الدفينة لها.. لـ تطل عليها ڪل صباح.. فـ تغتسل -أولاً- .. فجراً بــ نَّدَىً بِڪري طاهر لم تلمسه من قبل بشرة مخلوق أيا ڪان مِن إنسان أو جان.. - وقبلهما لا يوجد بشر موجود ولا يوجد إنسان مخلوق -.. تغتسل بـ نَّدَىً حين يتڪاثف بخار ماءه أثناء الليل في طبقات جوّ السماء العلوي البارد ليڪون منعشاً فيسقط علىٰ أوراق الزهر فـ يتعطر ويتجمع فوق خدود الورد فـ يتطيب ويتراڪم علىٰ رموش الرياحين فـ يڪتسب زڪي الروائح..
نَّدَى يتساقط قطرات صغيرة.. فتغتسل « حواء » في نوبتها الأولىٰ قبل أن يستيقظ « آدم » من مرقده.. وقبل أن يصحو من فراشه.. وقبل أن يغادر مضجعه.. ثم تتعطر - بمجرد لمسها - بنسيم الرياحين.. وتتجمل بـ طيب رَّذاذ عطر الورود وفيح الياسمين.. فـ يڪسي مخلوط تلك العطور جسدها الطري ويغطي فرع بدنها الزڪي..
ثم يلقي علىٰ ڪتفيها حُلة جميلة باهية.. فستان زهور نُسجَ لها خصيصاً بيد « آدم » دون علمها لـ تستر عورتها عن عيون بقية المخلوقات الآخرىٰ.. منعاً للحسد وصداً لعين حسود حاسد.. إذ لا يوجد جنس بشر -حتىٰ هذه اللحظة- علىٰ الأرض سواهما.. أو إنسان فضولي حولهما في تلك اللحظة.. لڪنها رجولة « آدم » الذي أراد أن يغطيها برموش عينه قبل أن يسترها بـ قطعٍ من الورد والأزهار.. حرصاً عليها.. فيڪسوها بخدود الورود ويلبسها رموش الرياحين فــ تتزين بـ أوراق الشجر وغلاف ثمر المانجو!
.. تلك المرأة الوحيدة التي تملڪت ڪل خصائص الأنثىٰ الفاتنة وامتلڪت مميزات الأنوثة الڪاملة.. فـ امتلڪتها بــ جدارة فــ خبأتها بين رقائق صدرها وتحت تَرَائِب مَوْضِعِ القِلاَدَةِ منها وثنتها بين حشايا جوانبها واردافها فـ بعثرتها في صحائف بدنها ڪله.. خصيصا له وحده.. فــ تبرزها حين نُطقها معه فـ تضئ لمعان أسنانها ڪلماتها.. وتجدد شبابه ڪل يوم عند حديثها له وتفجرها أنوثتها الطاغية مع ضحڪتها الرقيقة الخافتة فتفتت حبات عرق جبينه عند سمرها معه..
أنوثة «حواء».. ڪامل الأنوثة..
وعند نظرتها إليه حين تُڪحل رمشها بـ بُهمةٍ من اللّيالي والتي لا يَطْلُعُ فيها القمر.. فيڪون بريق عينها اليمنىٰ قمره الذي يضئ له ليله المظلم البهيم.. وتڪون عينها اليسرىٰ نور يسطع في أفق غرامها له فتضاء سماء ليله بـ اضواء قمرها المنير.. وجهها الصبوح مِن أوله إلىٰ آخره ڪأنه في ليالي البِيض القمرية وڪل لياليه نور وبِيض..
إذ أن ڪل لياليه نَّابعِيَّة، تلك الَّتِي يَسْهَرُ فِيها وَلاَ يَذُوقُ الإِنْسانُ طَعْمَ النَّوْمِ!
.. وحين تمشي الهُوَيْنَىٰ إليه أو تسرع في مشيتها له فهو يستقبل أشعة شمس معتدلة الحرارة ذات نهار طويل ودفء يوم جميل.. وحين تلامسه بأطراف أناملها فهو يستقبل ربيع أيامه.. أما حين تسرع -عمداً- في سحبها.. فيقبل عليه شتاءٌ قارص وبرد لاذع.. والڪل منها.. وما يزيد عنها.. له.. فقط له -« آدم »- ما يزيد عنها.. منبعث من قلب خافق.. ڪلُ نبضةٍ تخبره بحبها وڪل ضخة دم من فؤادها تعلن تيممها بغرامه..
فــ حين قالت العرب :« تَيَّمَهُ الحُبُّ.. أي جَعَلَهُ مُتَيَّماً، مُذَلَّلاً، فقد ذَهَبَ الحب بِعَقْلِهِ.»..
لذا قالت العرب الأقحاح:« التَّيْمُ : العبد.. ومنه: سَمَّتِ العربُ: تَيْمَ اللهِ، أي عبده.. وتَيْمَ اللاّتِ »..
ڪل هذا لــ يبحث في طيات معاطفها عن تلك الأنوثة المغروزة بـ صنع خالق والتي ڪونها فيها مبدع والذي شڪلها مصوِّر فأوجدها منشأ من عدم.. تلك الڪامنة بمعرفة خالق في ثناياها.. والمدفونة بـ دقة مبدعٍ في جوانحها.. والمخلوطة بترتيب منشأ بـ دمها والمنسوجة مع خلاياها بمعرفة متقن.. والمعجونة بأنسجة بدنها لحظة الخلق والإبداع ومتغلغة في عظامها عند الإنشاء ومسحوقة بـ غطاريف مفاصلها..
فــــ يفوح مِن مفرق شعرها شذا عطرها الفذ.. فيسڪره العطر مرة ويدوخه الطيب مرات.. وتسحره بنظرة عين يمنىٰ أحياناً.. وتجهز عليه فيصرع شوقاً وعشقاً بغمزة عين يسرىٰ دوماً.. فـ يقع في شباك حبها.. وهو بالفعل واقع منذ لحظتها الأولىٰ لحظة خِلقتها الأولىٰ في حبها.. لحظة أول لحظ لها بعينه.. فــ تجذبه إلىٰ دفء قلبها وتقربه إلىٰ سمو روحها قبل أن يشعر بحرارة جسدها ودفء بدنها..
.. ثم فجرتها -أنوثتها- مِن قلب العاشق الڪتوم عند ڪل لمسة منها له.. وبعد ڪل نظرة شوق لها، جددت شبابه فـ وَلَدَّتْ خلايا سليمة صحيحة في بدنه.. فاسڪنته الجنَّة مرتين.. جنّة الرضوان -معها- وقت رضا الخَالق عنهما، واسڪنته جنّة حنانها وفردوس عطفها -علىٰ الأرض- لحظة رضاها عنه..
-*/*-
.. هذا « المشرقي » نفسه الذي مر بأرض فارس التي تنازع أهلها في هوية « آدم »..
.. ثم مڪث في «جزيرة العرب» التي استقر بها عرشُ العشق منذ حِين وزمن ومُلْڪه حين ازدلفت إليه « حواء » فتعارفا..
.. أزعمُ أن هذا « المشرقي » يعرف ڪيف يعشق.. بل ازعمُ أنه يملك ابجديات العشق وتحصل علىٰ ڪامل حروف الهوىٰ فـ اڪتمل عنده ڪل تراڪيب جمل النوىٰ فصاغها بـ تمام أبيات شعر العشق العفيف والتَّشبيب والنسيب..
ويعرف مراحلَ العشق الخمسين وما زاد عنها فتذوقها.. وڪيف يمر بها واحدة تلو الآخرىٰ وبيده مفاتيح العشق وأدواته،
فهو.. إذن.. القادر..
.. وأزعمُ أن « العربي » هو أول مَن ڪتبَ المعلقات، فلم يجد أفضل مِن أَستار » الڪعبة « المشرفة موضعاً، فعلقها علىٰ ڪساءها.. و«الڪعبةُ» أولُ بيت للحب الآلهي، لـ يمزج حبَ الخالق بأرقىٰ معانيه واسمى مبانيه وصحة عبادته يمزجه مع عشق المخلوقة في أسمىٰ لحظات العفة وأعلىٰ درجات العفاف.. ويفرد لها صفحة قلبه وورقة فؤاده لـ يڪتب لها ابيات شعره ومنظومة عشقه..
تلك المخلوقة التي ڪَمُلت بصنع واجدها بيده دون تشبيه ووضع لمساتها الآخيرة علىٰ عيّنه دون عناء أو تڪليف.. فصارت أنثىٰ برعايته ووفق مشيئته وطبعاً لـ مراده..
فـ هو العليم البصير الرحمن بعباده الخبير!
.. هذا »العربي« الذي أبدع تلك «المذهبات» والتي نقشها بماء الذهب، وهيّ المجموعة الشعرية التي تلي «المعلقات» في الجودة، لـ تدلا - المعلقات على جدار «الڪعبة» والمذهبات علىٰ استارها- علىٰ مدىٰ قدرته الفائقة علىٰ التعبير لـ يظهر غرضه مِن الغزل والنسيب بشقَّيْه المڪشوف والتشبيب والعفيف، ولغة العرب هي اللغة الوحيدة التي وضعت لـ درجات الحب ما يربو علىٰ خمسين معناً ووصفاً ودرجةً، فــ «العربي» لحظة أن أوقد النار في الحطب لـ إعداد الطعام أو تحضير الشاي، أعدَّ قصائدَه بـ جوار أميرة شعره قرباً وطرباً.. أو علىٰ شرارة الحطب بعداً وهجراً، فـ تنقدح أبيات العشق مِن صميم فؤاده، وتملأ غرف قلبه أحاسيسه فـ تنبعث من فمه وتخرج ممزوجة بعسل عشقه وأريج شوقه..
فهو ملك الصحراء.. وابن ماء السماء وراعي نجوم السماء.. الذي تُوّج في ليلةٍ قمراء.. أميراً علىٰ عرش قلبها بيدها الناعمة البيضاء.. ولحظة التتويج انسدلت علىٰ جبينه خصلةٌ مِن جدائل فاتنته الحُمَيراء، فيصفها ڪما تُظهر الطبيعة مفراداتها ڪـ نحاتٍ يملك خيالاً خصباً وإبداعاً رفيعاً وبيده أدوات التعبير ڪلها يُشڪل وصفَ أنثاه بدقة متناهية علىٰ جدارية التأريخ..
فـ يشهد الجميع.. مَن حضر غثناء إلقاء القصيدة أو مَن غاب.. ومن تزامن معه لحظة السماع والإلقاء أو مَن سيأتي من بعده فتنقل له صحيح الرواية..
فـ لها المجد والثناء والخلود.. وله تاج الفخر والبهاء.. ولشعره البقاء..
.. هذا «العربي» نشر معلقاته لڪل مَن قصد البيت العتيق المعمور زائراً ومطوفاً.. تاجرا ومتعبداً.. لـ يقرأ وصف «أنثاه» الوحيدة بأرق التعابير وأجزلها؛ واسمىٰ الألفاظ وأبدعها فـ علق المذهبات.. ولم يجد أغلىٰ من الذهب مداداً لـ أحاسسه.. ولم يجد أغلىٰ من التبر حبراً لـ وجدانه.. فـ أذاب الذهب بشجونه وصهر التبر علىٰ نار شوقه وحنينه وجنونه، وزين أستار «الڪعبة» بـ معلقات تبارىٰ بها مع غيره مِن فحول الشعر ورجال الڪلمة.. فڪان له السبق والفوز والقدح المعلىٰ وتحصل علىٰ الرفعة والسؤدد، مستخدماً مادة الطبيعة بمڪوناتها الوفيرة وجميع أطياف ألوانها الغزيرة، لـ يڪسي رمز الڪون «النماء» في أنوثة محبوبته وخصوبة «المرأة» التي عشقها بما يرىٰ لـ صياغتها وبما يريد هو في ڪلمات لـ يقطر بالقرب مِن قِرطها المعلق علىٰ أذنها اليسرىٰ القريبة مِن قلب معشوقته وبجوار وجانب جيدها المعطر بعرقها من الخجل.. يُقَطِر.. عصارةَ حبه وعشقه.. ومزيج دموعه وآهاته.. ومخلوط نحيبه وشوقه ولوعته، فيلفها ڪلها في نسيج خياله فترتدي ثوباً قشيباً.. خيوطه ربطت بقلبه الولهان وجدلت بإحڪام بــ لبه فوق غلالة العفاف، فهو مبدع هذه الصناعة بدون منازع، ومَن قلده مِن بعده أفلس، ومَن قال بعده ليصفها فهو أخرس، فـ مهنة العشق تحتاج لإتقان لا تقليد ڪما يردد من لا يفقه قول البغبغان، وسر الإبداع يعود لذلك المزج بين روحانية العاشق «المشرقي» بـ رهافتها ورقتها وشفافيتها وعلوها وسموها -في بيئتها الأصلية- مبعث الأنبياء وموطن الرسل ومهد رسالات السماء..
ثم يتساقط ذاك المزيج ڪـ سخات الندىٰ الطاهر النقي بعد طول ليل السهد حين تلامس جمرات الشوق، فـ لهيبه يُطيّر ڪلمات العشق من جوانبه التي خُلدت إلىٰ عنان السماء فترددها طيور الفضاء..
السر يعود إلىٰ ذلك المزج الذي تم بين روحانية «المشرقي» الذي هبط من جنّة عدن وبين احتياجات الإنسان الراقية وغرائزه السامية وفق معايير عالية ومقاييس دقيقة محسوبة وُضعت منذ آلاف السنين مِن عقلية «رجل».ز وليس فقط ذڪر.. ذاق طعم الإنفراد فـ استوحش.. ثم ذاق طعم الأنس والقرب فـ استأنس، فـ رسم في خياله لها صورةً، أبعادها بين الثرىٰ والثريا، وأطرافها بين الڪواڪب السيارة في السماء الصافية وعرضها بين النجوم الظاهرة اللامعة وبين المجرات السائرة علىٰ تباعدها واتساعها.. مربعاتها ما بين المشرق والمغرب، ومساحتها تشمل الڪون ڪله.. وهذا عرضها..
يضئ المڪان وهيج حطب الشوق حين يحضّر في ذاڪرته ڪلماته لـ يلقيها علىٰ قلبها قبل أذنها ويسمعها بفؤادها قبل أسماعها.. حين يقابلها أو حين يرسل رسولاً أميناً بمڪتوب، أو يضئ قمرُ الليالي بدموع الولهان..
ڪراستَه التي امتلئت بمئات من صورها -وفق خياله الخصب- عندما يڪتب لها.. ومداد قرطاسه يستمده مِن دموعه التي يخفيها بين حبات الندىٰ الساقطة فوق رمال الصحراء..
فهذا «المشرقي» .. هو القادر ..فعلاً..
.. اتقنَّ - «العربي» - العشقَ فـ لُقبَ بـ «المجنون»، أبدع في صياغة وجدانه بـ ڪلمات خرجت من خلال شغاف فؤاده.. تُقرأ.. فصارت بعد مئات السنين قرآنا يتلىٰ فـ يرتل فـ يجود فـ يحفظ، يحتاج لـ مراجعة وشرح وتعليق، وخبرة عملية تراڪمية للعاشق الجديد القادم.. ولو بعد أعوام وطول سنين..
صفىٰ المنبع فـ زدان المورد بفرسان الڪلمة.. واتسع الحوض لـ مَن لديه الموهبة والقدرة.. فـ سعدت نساء العرب والعجم جميعاً .
فيا سعادة «المرأة» التي خلدها المحب العاشق المتيم الولهان.. فـ أتمَّ ما قام به الخالق في السماء حين ابدعها في أحسن تقويم.. فــ وصفها -«آدم»- لما هبطت علىٰ الأرض بجواره.. فـ بقوله يعيدها ڪما ڪانت فـ يرفعها إلىٰ السماء.. نقيّة.. بهيّة .. عفيفة.. صافية.. طاهرة.. شريفة.. راقية، ومَن لم يفهمه سماه : « „ المجنون ” » ؛ ومَن غار منه وحسده حبسها في بيت الحريم يُفرج عنها لحظة رغبته الوقتية ولحيظة استنزال واستفراغ شهوته الدنية.. وحين أصدر أوامر الإعتقال النفسي والإبعاد العقلي والحبس الجسدي ذيّل الفرمان بالسماح لها فقط.. بالإنجاب، ويا ويلها لو تجرأت فـ أنجبت.. فولدت مثلها .. أنثىٰ.. وإن ڪان هو الذي يحدد نوعية المولود وليست هي.. أما حين يعود إلىٰ ذڪوريته والتي يحيطها بسياج الضعف وعيدان الشهوة الدنية في غابته المظلمة فـ يلزمها إرتداء حزام العفة الذي صنعه الحداد .
.. أزعمُ أن هذا «المشرقي» يعرف ڪيف يعشق.. بل أزعمُ أنه يملك أدواته، وخير دليل علىٰ صحة الإدعاء والزعم
تلك:
الترجمات مِن النصوص الفارسية والعربية إلىٰ اللغات الغربية ڪــ الفرنسية والألمانية والإنجليزية..
.. والجانب العملي في ممارسة الحب يُؤخذ في الغرب -تجده فوق رفوف المڪاتب- مِن المعابد الهِندية التي أفسدتها برودة الجندي البريطاني زمن الإحتلال ونهب الخيرات وقُبيل غياب الإمبراطورية التي غابت عنها بالفعل الشمس.. وإن لم يعترفوا بذلك.. وزمن ووقت اغتصاب خيرات الأرض لـ يرحلوها إلىٰ الجزيرة النائية، فــ الهندي المشرقي عبَّر عن حبه لها بأن بنىٰ لها معبداً ليخلد صورتها؛ وجنود الإمبراطورية الإنجليزية البريطانية لـ حالة الجمود العاطفي عندهم والتربية الڪهنوتية الخاطئة حطم معبد هندي مشرقي دون أن يفهم مِن صاحبه القصد.. أو يستفسر مِن الباني عن مغزىٰ البناء أو سؤاله..
.. ومجموعة الڪُتب التي صورت لحظة الوصال بعد الشوق وهي آتية أيضاً مِن التقليد الشرقي القديم الذي يعرف باسم « ڪاما شاسترا » .. „Kama Shastra“ ، والذي يعود إلىٰ أزمنة سحيقة والبعض يرجعها إلىٰ ما بين 200 و 300 بعد الميلاد العجيب المعجز، وأول ترجمة لهذا التقليد للإنجليزية ڪانت عام 1884م، أو تؤخذ من ڪتاب «الروض العاطر في نزهة الخاطر» „The Perfumed Garten“ والمترجم للفرنسية عام 1850م..
.. أذهب إلىٰ أمهات المڪتبات وسترىٰ صدق ما زعمت ! .
-*/*-
.. „ رفيقي ” ؛ .. «المشرقي» - مَالك هذه الرواية.. ولم يطلب مني ڪتابتها - اڪتسب سابق ڪل الخبرات واستفاد مِن تلك التراڪمات، فـ رسائِلُه إليها - السيدة.. : العربية أولاً ثم الغربية ثانياً.. التي حبها فـ عشقها –
رسائله لها ڪانت دائماً ملونة، ولعل دفء جغرافيا مدينته الساحلية :« „ الْإِسْڪَنْدَرِيَّة ” » ؛ وشخصية مؤسسها " .. الأكبر " ومدرسة « „ الْإِسْڪَنْدَرِيَّة ” » الفلسفية ورجالها علىٰ مر العصور والحقب التاريخية التي مرت علىٰ مدينته الثغر والتي تطل علىٰ البحيرة المتوسطية .. لعل هذا العامل وتضافرت عوامل آخرىٰ لعبت دوراً جوهرياً في تڪوين شخصيته ودوراً رئيسياً في بناء عقليته..
هذا.. «المشرقي».. „ رفيقي ” ؛ هو الذي عاش بين أهلها الذين إذا غربوا سبحوا في بحيرتهم « البيضاء النقية المتوسطية ».. سبحوا بجوار الحيتان.. في طولها وعرضها.. وحين يرفعوا رؤوسهم يتسلقوا إلىٰ السماء وفي أيديهم حبالهم التي نسجت مِن خيوط ذهبية جدلتها أشعة الشمس خصيصاً لهم.. فـ إذا أغتسلت معهم في بحيرتهم وقت الغروب تمسڪوا بالحبال الفضية التي هياءها القمر لحظة غياب شمس النهار، لـ يهيئوا لهم مرقداً وفراشاً.. وإذا عطشوا يمموا الوجه المليح إلىٰ الجنوب فيأتهم الشاب الفضي -النيل- الأصيل بطميّه ورزقه.. فيروي ظمأ العاشق ويطفئ لهيب الولهان..
.. جغرافيا مدينته « „ الْإِسْڪَنْدَرِيَّة ” » جعلته يُحسن تلوين قرص الشمس في الزاوية العليا مِن رسائلِه لها.. فيعطيها حقها مِن اللون الذهبي ڪشعرها المنسدل علىٰ ظهرٍ.. أخذَ لونَه مِن المزج الدقيق المتقن بين نهار أبيض وضّاح مشرق وبين شَّفَق أحمر قبل الغروب..
تلك.. هيّ المرأة الغربية التي تُوجت بتاجها الذهبي الفريد ملكةً بين بنات جنسها فوق عرش قلب. „ رفيقي ” !
.. ثم يڪثر مِن زرقة السماء الصافية بـ درجتيها الخفيفة والثقيلة الداڪنة، فهو دائماً.. أينما ذهب ينظر فـ يرىٰ عيناها، إنه يلون السماء ڪأن صفحته لها شرفةٌ.. منها.. يطل علىٰ سماء دنياه بـ عينيها، ثم يضع حرفاً أو أڪثر مِن أوائل اسمها، في وسط الشمس الذهبية بأشڪال مختلفة .
ــ ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ــــــ ـــــــــ ـــــ ـــــ ــــــ ـــــ ـــــ
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
» الرجل المشرقي «
„.[ ٣. ] الـجزء الثالث ‟:
( تَمْهِيدٌ لـ رواية «الْرَجُلِ الْمَشْرَقِيِّ»).
[ ٣. ١ . ] مدخل للجزء الثالث من الرواية عَوْدٌ عَلىٰ بَدْءٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
‏المحاولة الأولىٰ في ڪتابة الرواية وضعت لمساتها الأولىٰ في
...........
نابل – الحمامات الجنوبية
Regency نُزل ريجنسي ـ
الخميس 31 ديسمبر 2009م
ورقات من كراسة إسكندريات..
.. حيث حُرِّرَت هذه الورقة بعد غروب يوم الأحد من العام ١٤٤٥ الهلالي الْهِجْرِيَّ: ٢٩ ربيع الثاني ~ الموافق: 12 أڪتوبر 2023م من سنين الميلاد العجيب المعجز للسيد المسيح عيسىٰ ابن مريم العذراء البتول -عليهما السلام-.
وتمت مراجعتها صباح الثلاثاء : 14 نوفمبر من العام نفسه!
( د. الْفَخْرُ؛ الْإِسْڪَنْدَرَانِيُّ؛ ثم الْمِصْرِيُّ مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِن ثَغْرِ الْإِسْڪَنْدَرِيَّةِ بِــالدِّيَارِ المِصْرَية الْمَحْمِيَّةِ -حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى-) ﴿ نَزِيلُ فِيِنَّا / Vienna ﴾


ج1 2022 >>

[ 52 ] اَلْطِعْمْ

.. دخل „ رفيقي ” مساءً شقتنا الصغيرة جداً.. والمتواضعة للغاية.. وذات أثاث بسيط قديم.. ومتاع رَّثّ.. فڪل شئٍ فيها يدل علىٰ أنها أسست قبل الحرب العالمية الأولىٰ.. في منزل قديم.. أو ترڪت الشقة -هڪذا- لزمن لا يسڪنها أحد.. وباعتبار أننا من المسلمين فداخلها دش لمياه ساخنة.. وڪانت دورة المياه لقضاء الحاجة اليومية الضرورية خارجها.. في الممر بمشارڪة مع جار آخر.. ومع صغرها فقد ڪان „ رفيقي ” سعيداً بهذه الشقة جداً.. فهي -علىٰ ڪل حال- مناسبة لطالب مغترب دخله الشهري يڪاد يڪفيه.. ومِن حسن الطالع فــ الشقة الصغيرة هذه ڪانت لـ طالب مِن سوريا مِن عائلة « أبو حرب » درس الطب في جامعة فيينا.. وصارت له عيادة طبية.. سڪنها قبله أخيه الأڪبر.. وتوسط طالب طب ثالث مِن عائلة الــ « بترجي » من المملڪة العربية السعودية يدرس هو أيضا الطب ڪي يسڪن „ رفيقي ” فيها.. فــڪانت بشارة خير فڪل مَن سڪن فيها أو زارها تخرج دڪتوراً..
.. دخل „ رفيقي ” والغضب بادياً علىٰ وجهه.. مغاضباً مع نفسه فـ ظهرت إمارات الانفعال الداخلية في حرڪاته.. ويلاحظ المرء شعوراً بضررٍ ما قد اصابه أو حدث احتقار له بصورة ما مذلة أو لحقته إهانة متعمدة مِن غيره..
..ولا أدري(!).. ما سبب ڪل هذا.. أو ماذا ألم به.. ولڪنه -في الأول والآخير- إنسان يحمل بين جنبيه مشاعر إنسانية وأحاسيس آدمية وعواطف بشرية تثار مرة وينفعل بها مرات.. مع حساسية المغترب في بلاد الغربة.. الفرنجة.. وڪأن لون بشرته القمحي يطارده في بلاد معظم أهلها يحملون البشرة البيضاء..
.. بدء „ رفيقي ” حديثه.معي بـ نبرةٍ يعلوها الأسىٰ العميق ويتملڪها الحزن الدفين.. وڪان يعلوه الألم الذي يعتصر صاحبه وإن ڪان شديد القوىٰ ومتين البنيان.. أو هڪذا بدىٰ لي..
.. إذ قال دون مقدمات لــ موضوع ليلتنا بعد تناولنا السريع لـ وجبة العشاء الخفيفة مِن تحضير يدي.. ومساعدته لي إحياناً دون الحديث إثناء الطعام أو الڪلام عند تحضيره.. وهذا ليس من عادته.. بل.. وإثناء تناولنا فنجان مِن الشاي الخرز: « „ ليبتون.. العلامة الصفراء ” » قال:
.. „ قامَ أبناءُ آدمَ - بنيه مِن ذڪورهم.. وذريته مِن الإناث- بــ أفعال يَنْدَىٰ لها جَبِين البشرية جمعاء.. فـ أَوْحَلَتهُم أفعالهم المشينة فــ غرزت اقدامهم في طِّينِ الوحل الرَّقيقِ لـ ترتطم فيه الناسُ لتتسخ ملابسهم.. والدوابُّ فيمتزج مع عرقهم.. فيَعْرَقُ تاريخُ الإنسانية في وحله الأَسِن.. وطينه الآجِن.. بـ جميع مفردات التاريخ البشري.. فـيَرشَح التاريخ عرقاً خجلاً.. فـ قد تورَّط الإنسان -وما زال- في أعمال غير إنسانية.. بل وغير مشروعة.. ولا تتفق مع فطرته.. وغير نظيفة.. قذرة.. تهين البنية الآدمية الأصلية فـ تلطَّختْ سمعة الإنسان بالدَّنس البدني والخُلُقِي.. واتسخت ملابسه الداخلية فـ لم يتمڪن من تبديلها.. فقد استمرأ رائحة العفونة التي تنبعث منها.. واعتادت أنفه عطِن الوحل الذي وقع فيه فـ تنجس هندامه وتوسخت ملابسه.. وليس فقط اتسخت قدماه.. فــ وَحِلَ الذڪر الآدمي والأنثىٰ البشرية فِي مُسْتَنْقَعِ الشهوات الدنيئة الوقتية الزائلة.. وَظَلَّا يَتَخَبَّطان فِي مزبلة الرذائل.. فــ أَوحل المڪان بفعلهما.. بل تنجس الزمان بإثبات افعالهما وتوثيقها مما يثير الدهشة بل الاشمئزاز.. ونادراً مَن يقف علىٰ الرَّوابي مَخافةَ الوَحَل لــ ڪثرة هطول أَمطار مملحة لا تسقي حرثا ولا تنبت زرعا ولا تروي ظمآنا مع هبوب الأعاصير العاصفة المدمرة.. وقلةٌ مَن تسَنِيَ إلىٰ المعالي لـ تعلو الهمم عن مقارفة الرذيلة والابتعاد عن الخطيئة وترتفع القيم في سماء الطهارة وعلو العفاف وتسمو فـ ترتقي البشرية لما تستحق له الذرية الآدمية.. فقد تملك بني آدم عقلا نيراً وذهناً وقاداً وقدرة فائقة علىٰ التفريق بين الخطأ والصواب؛ مع أمڪانية وضع الخط المستقيم بجوار الخط المعوج لتصحيح المسار..إلا من أغمست رأسه في وحل المستنقعات ” ..
.. ثم توقف.. ڪعادته.. في الحديث بعد تلك المقدمات المبهمة لـ ينظر مدىٰ رد فعل السامع.. أو تجاوب المستمعين لما يقول..
وبنظرة خاطفة لوجهي فقد علت علىٰ اساريره علامات التعجب وإمارات الدهشة والاستنڪار.. فلم افهم -حقيقةً- المقصد مِن تلك المقدمة الغامضة بما يعلوها مِن مرارة العرض.. وألفاظ قاسية.. وأوصاف بشعة..
ثم قال :
„ إذ.. هو أمرٌ مُخْزٍ.. بل عدة أمور مُخجلة.. تمت علىٰ مَر العصور وڪر الأيام من بني الإنسان ” ..
ثم عاد وتوقف مرة آخرىٰ ليرىٰ مدىٰ شدة اندهاشي وقوة إنتباهي لما يريد بعد ذلك قوله..
وقال سريعاً :
„ فعلٌ.. يَنْدَىٰ لَهُ اَلْجَبِينُ الآدمي ”..
وتوقف عن الاستمرار في الحديث.. في محاولة منه لـ خفض صوته قليلاً عما ڪان مِن قبل.. لــ يبدء مِن جديد بنبرة أقرب إلىٰ الترتيل والتجويد والإنشاد لمَن أعتاد علىٰ تلاوة آيات الذڪر الحڪيم وإسماع التواشيح وليالي اهل الصوفية الملتفون حول شمعة المبارك التي لا تنطفأ أو زيت أهل الله الصالحين الذي يداوي جميع الأمراض.. وبدء في تجويد الڪلام وتحسين الإلقاء.. وڪأنه تخرج حديثاً من معهد فنون المسرح والتمثيل.. لــ يقول :
„ وحَلَّ غضبُ الله -الجبار.. شديد الإنتقام- علىٰ الناس المخالفين لفطرة الخَلق.. والمعاندين لدقة الإبداع في التڪوين والتنشأة.. فـ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم.. هڪذا قال المُصوِر.. ونزل غضب السماء وعمَّ إنتقام الجبار علىٰ المفسدين.. إذ جاء في التنزيل العزيز من الخبير العليم : { فَيَحِلَّ عَلَيْڪُمْ غَضَبِي وَمَنْ َيَحْلِلْ عَلَيهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ }
وسڪت.. ساحباً نفساً عميقاً.. ورشفةً من فنجان الشاي الذي أمامه.. ثم قال :
„ فــ لم تُحَلَّ هذه المشڪِلَةَ حتىٰ الأن.. ولم يجد لها مخرجاً.. بل إزدادت تعقيداً عما قبل واستفحلت عما سلف تحت مسمىٰ زائف ڪــ : « حقوق الإنسان » و « الحرية الشخصية ».. ” ..
ثم ارتفع صوته مدوياً ڪأنه خطيب الميدان وفارس المنابر فوق جواد هادر.. دون منازع.. أو معارض.. قائلاً :
„ وهذان الشعاران مِن منتوجات الديموقراطية الحديثة المزيفة.. ومخلفات حرية التعبير دون قيد.. وفوضىٰ حرية الرأي دون شرط.. وفي العديد مِن مناطق العالم أحلَّ الإنسان عَرض أخيه الإنسان فــ أباح ليس فقط التعدي علىٰ شرفِه.. ونهب ماله.. واغتصاب أرضه بل أباح قتله وسمح بحرقه والتمثيل بجثته.. فصار هو في حِلٍّ مِنْ ڪُلِّ مَسْؤُولِيَّةٍ: مُتَحَلِّلٌ من ڪل مُسَألة، مَتَحَرِّرٌ من ڪل قيد، مُتَخلِّصٌ مِنْ ڪل شرط أو وعد!.. بل متخلياً عن إنسانيته! ناقضا عن آدميته معارضة لها ومخالفاً ” ..
.. هدأ قليلاً.. وڪأنها استراحة بين الفقرات.. أو لإرادته أخذ شهيقا طويلاً ونفسا عميقا.. ورشفةً ثانية من فنجان الشاي.. ليڪمل أنشودته التي بدأها هذه الليلة.. ليدلل علىٰ صحة ما قد سبق وقاله أو بما هو أتي وما زال في جعبته.. فقال :
„ وعلىٰ سبيل المثال لا الحصر ما يحدث علىٰ الأرض المقدسة.. الشام وفلسطين.. أو.. زراعة الخشخاش في أفغانستان وبيعه أو تصدير الأفيون والحشيش مِن منظمة حزب الله اللبناني داخل الفواڪهة والخضروات إلىٰ دول الخليج ” ..
وبصوت خفيض يڪاد يُسمع.. ڪأنه لا يريد إسماع أحد غيري.. وإن ڪنت أنا الوحيد معه في غرفة المعيشة.. فلا ثالث معنا.. سوىٰ الله.. وباب الشقة مغلق بمفتاح نضعه في طبلة الباب طالما نحن فيها.. وهي عادة أحضرناها معنا من مِصر.. وإن ڪان يحلو له دائماً أن يقول أن مِن الملائڪة ثلة من السُّيّاح تأتينا لسماع ما نقول.. إذ قال :
„ وڪــ سڪوت بابا الفاتيڪان الحالي وإللي قبله عن بعض تجاوزات رجال الڪهنوت مما أدىٰ إلىٰ سخط وخروج العديد من الأتباع.. إما لهذا السبب.. وإما لعدم دفع مستلزمات مالية[(*)] وفق نسبة من الدخل الشهري.. والفڪرة قد ابتدعها: « أدولف هتلر ».. النمساوي الأصل.. والزعيم النازي.. ومَن ألتزم بتلك المستحقات الشهرية يدفعها لمنظمات خيرية إغاثية.. وڪــ خروج العديد مِن رجال[(**)] الأزهر الشريف عن عباءته.. والطعن في مصداقيته والتجديد والتحديث بدلا من جموديته.. والحديث بــ هرطقات فارغة المضمون.. فاسدة المحتوىٰ ”..
وعاد وتوقف وڪأني رأيت بريق دموع مع غرغرة في عينيه فقال متألماً :
„ فتراجعت المؤسسة الدينية عن دورها المنوط بها وتضعضعت هيبة المؤسستين الدينيتين وضعفت.. وعلت العلمانية في أروقة دواليب الحڪم..حتىٰ في بعض الدول العربية وفي أساس الدول ومنظومتها الحڪومية والتشريعية ” ..
وڪأنه تجرأ.. فقال ما لا ينبغي قوله؛ وڪان ينظر خلسةً من حين إلى آخر تجاه باب الشقة.. وشقتنا -هذه- بأڪملها لا تتجاوز 35 متراً مربعاً.. وهي مناسبة للطلبة في المراحل الأولىٰ مِن التعليم العالي .. وعلىٰ ذمة مَن يروي فــ يقال [(الحيطان ليها ودان)].. فالجار إللي علىٰ يمين خواجة نمساوي لا يعرف العربية مطلقاً.. والجار إللي علىٰ الشمال ڪمان خواجة لا يعرف العربية بالمرة؛ وعليه فــ حيطان شقتنا ليس لها ودان.. عربية..
ثم أڪمل.. وڪأن أنتابته شجاعة عنتر[(***)] وتقمص دور العبد الأسود حمايةً لــ الحبيبة الغالية عبلة ابنة العم من الخاطفين فقال :
„ حتىٰ تلك الأحزاب والتي تستمد قيم الدين السمح في قيمها أو دستورها.. هذه الأحزاب تخلت رويداً رويداً عن أهدافها الأولىٰ والمعلنةسلفاً وسارت مع التيار العام وليس ضده وإلا جرفها التيار ”..
سڪت وڪأنه زاح جبلا من فوق أڪتافه.. أو من علىٰ صدره.. ثم إنتقل لمسألة أخف مِن الأولىٰ فــ قال :
„ .. وذاع بين العامة وانتشر.. أن يفعلوا حَسبَما يحلو لهم وڪما يسرّهم أو يجدوه مناسبًا وساعدهم علىٰ ذلك سماسرة الدين.. أي دين.. بغض الطرف عن عامل الأخلاق أو وازع التدين أو مستخرجات الأديان.. أو منابع المبادئ أو حتىٰ العادات المورثة والتقاليد المتبعة.. وغاب جوهر الدين السليم والتدين الصحيح.. وأنتَ تجد هذا في العديد من أتباع تلك الأديان يستحدثوا الجديد وفقا لهواهم وميولهم ويلصقونه في الدين أو يقول أنه باسم الدين.. ڪل منطقة حسب ما عندهم من جديد.. مع سماع ڪلمات جوفاء من وعاظ المصليات والڪنائس والجوامع والمعابد والمساجد والأديرة.. وهذه مصيبة آخرىٰ فقدوا جميعاً اساس الدين.. ألا وهو العقيدة والإيمان.. وسار الحديث مڪرر.. ممل.. معاد.. محفوظ بين الدفاتر والڪراريس أو منقول من صفحات منصات التواصل الإجتماعي.. ووعاظ بيوت العبادة يتناسبون ويتمشون مع المناسبات السنوية والأعياد الدورية .. ” ..
أوقفته.. وقلت له بهدوء الرجل الوقور :
„ إنت آيه حڪايتك الليلة دي.. مالك يا صاحبي!؟.. فيك آيه بِعد الشر!.. إنتَ عيان.. ولا عندك حرارة وفي جسمك مرتفعة ..” ..
فلم يجاوب علىٰ سؤالي أو استفساري..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
„ رفيقي ”.. إثناء حديثه هذا.. معي.. تملڪته حالةٌ مِن « „ القرف ” » .. في أمسية شتوية.. باردة الهواء.. شديدة الصقيع.. في الليلة التي ستنتهي فيها سنة ڪاملة بما فيها من محاسن أو عيوب.. مثالب أو نجاحات.. وسوف يولد عام جديد.. إن شاء الله نتمنىٰ فيه السعادة والنجاح والتوفيق..
..و.. إثناء وقت حديثنا هطلت نتفٌ مِن الثلج الأبيض ڪأنه -الثلج- يرغب أن يدفن أحداث جرت.. أو يريد محو أحداث تمت في خُلْد „ رفيقي ” أو معه.. ثم تجرف هذه وتلك جرافات قوية مصفحة تتبع بلدية مدينة فيينا عاصمة دولة الألب.. لتلقيها في بَلُوعة المجاري تحت الأرض أو تقذفها في نهر الحياة الجاري فــ ترميها في بئر النسيان أو نهر الـ لا عودة.. أو تُغرق الأحداث في بحر الأحزان والتي لا نرغب أن تعود!..
ــــــــــــــــــــــــــــــ
.. توقف الحديث.. وانقطع السماع.. إذ ذهب „ رفيقي ” لـ إحضار طبق مِن الحلويات من المطبخ الصغير.. قد أشترىٰ الحلوىٰ بمناسبة عيد الميلاد.. ولا أدري لــ عيد ميلاده هو.. وإن مرت عليه عدة أيام.. أم عيد ميلاد ابن الآله المخلص من الآلام والماحي للذنوب والآثام وفق عقيدة الڪنيسة الروم ڪاثوليك.. ولڪن -وقد أحسن التصرف- فقد ڪان لابد من ترطيب أو تحليه الجلسة بما سمعته من ألفاظ مقرفة طوال حديثه هذا المقزز هذه الليلة..
.. اعتدل „ رفيقي ” في جلسته بعد أحضار طبق الحلويات الشهية وقد ڪان قرَّبه إلىٰ مقعده أڪثر مِن أن تتناوله يدي..
ثم بدء بالقول :
„ .. إِنَّ الْحُصُولَ عَلَىٰ أَرْقَىٰ دَرَجَةٍ عِلْمِيَّةٍ في الجامعات المرموقة الغربية أو الأوروبية علىٰ وجه العموم لَا يَحْجُبُ صَاحِبَهَا عَنِ ارْتِكَابِ جَمِيعِ الْفَوَاحِشِ.. وَالإقدام علىٰ أرذل الرَّذَائِلِ.. وَأبشع الْجَرَائِمِ الَّتِي يَنْدَىٰ لَهَا الْجَبِينُ ” ..
فــ أوقفته عن الاسترسال في الحديث.. قائلاً له :
„ يا عم ڪفاية ألغاز.. وفوازير رمضان.. ده رمضان لسه بدري عليه.. آيه.. يا بني.. الليلة الڪوبية دِي.. وهو إنتَ قلبتها دراما هندي وتراجيديا إغريقية.. مع عزف منفرد علىٰ الناي الحزين.. مع اليلي الطويل ومسلسل آخر الليل المرعب : رَيا وسُڪيننا.. ليه ڪده بس.. هو فيه حد زعلك.. ولا داس لك علىٰ ديل.. ولا فيه عزيز لديڪم اتقلبت بيه العربية في الطريق الصحراوي في الخط إللي الناس بتمشي فيه وما بترجعش.. يا راجل يا وَحْش ” ..
فتحدث مڪملاً دون مراعاة لقولي هذا.. وهذه مِن عيوب رفقته.. وضريبة صداقته؛ أقصد أمثال „ رفيقي ” هذا ..
.. فقال دون اعتذار أو توضيح أو تبيان :
„ إن مما يندىٰ له الجبين.. وينفطر له الفؤاد أن ترىٰ بعض شباب مِصر يقومون ويروجون لما فعله قوم « „ لوط ! ” » .. ”..
فـ أوقفته سريعا متسائلاً :
„ قوم لوط!.. لوط مين يا بني.. إنتَ بتتڪلم عن آيه.. أو عن مين !؟ ”..
ثم أڪملت.. إذ ڪانت هناك محاولة منه للرد وإتمام حديثه.. فقلت بنبرة عالية واضحة :
„ وفين أحنا.. وفين قوم لوط دول! ” ..
وساد الهدوء النسبي الحذر الموقف بيننا.. ڪـ هدوء أجواء السماء ونزول الطيور لتقف علىٰ الأرض -تحسباً- قبل هبوب العاصفة المدمرة الزاحفة لتزيل الأخضر واليابس مِن طريقها..
ثم أرتشف مِن فنجان الشاي رشفةً.. وبالتأڪيد ڪاد فنجان الشاي الخاص به أن يڪون مثلجاً وليس فقط ساخناً.. إذ أنه يشربه ببطئ شديد.. وأخذ يبحلق في وجهي ملياً .. وڪأنه يستعد للجولة الثانية مِن حديثه هذه الليلة..
.. ثم قال بهدوء بالغ وبرودة أعصاب ڪبرودة الطقس خارج غرفة معيشتنا بالحي العاشر الفييناوي :
.. „ إثناء عودتي منذ دقائق للبيت.. وأنا لسه في مترو الأنفاق.. اقترب مني شخصٌ ما.. وجلس أمامي في المقعد المقابل.. لم أنتبه إليه في البداية.. إذ ڪنت اراجع بعض أوراقي المهمة.. ومشغول بالتأني في القراءة.. وإذ بحرڪاته المريبة ورائحة العطر النفاذ منه تنفذ إلىٰ خياشيمي.. مما استرعىٰ إنتباهي فما ڪان مني إلا أن نظرت إلىٰ هذا الشخص الجالس أمامي.. فوجدته شاباً.. المصيبة أنه أقرب إلىٰ النساء في شڪله وهندامه.. أقصد فستانه.. ڪان لابس فستان.. موش قميص وبنطلون ڪده زيّنا.. أو بدلة وبالطو.. وواضع مڪياج على وجهه حريمي خالص! ” » ..
فقلت له مقاطعاً :
„ طيب ابن الملدوعة ده عاوز منك آيه!؟ ” ..
فلم يجاوبني „ رفيقي ” .. وقال :
„ حين هممتُ بالوقوف ڪي أغادر المترو.. وقف بقصادي واقترب مني ڪثيراً.. وكأنه يريد أن ألتصق بصدره ” ..
وسڪت خجلاً ثم قال :
„ ڪأنه يرغب أن يقول خذني بين ذراعيك.. ثم نزلت وجيت علىٰ البيت ” ..
فقلت له « „ طيب.. الحمد لله ما حصلش شئ مڪروه ” ..
فقال مباشرةً :
„ تذڪرت حادثة منذ زمنٍ مضىٰ ” ..
فقلت له « „ خيراً .. إن شاء الله.. اللهم أجعله خير! ”..
فقال بعد أن جمع قواه الذهنية :
„ قبيل مغرب نهاية آحدىٰ أيام العطلة الصيفية الطويلة في مدينة الْإِسْڪَنْدَرِيَّةِ.. وقت الدراسة الجامعية هناك.. تقدم صديق لي.. وقال بصوت عالٍ يمتلؤ استهجاناً بين بقية زملاء الدراسة في وسط محطة ترام الرمل القريبة مِن تمثال الزعيم سعد زغلول.. وأمام ڪشك بتاع الفيشار.. والمثلجات وقبل أن يتڪلم.. ضحك ضحڪةً استهزائيةً.. وقال مشيراً باصبع الإتهام تجاهي :
„ إنت تعرف واحد اسمه السيد!؟ ” .
فڪان ردي بسرعة متناهية :
„ ڪلنا « سيد » في ظل الجمهورية ” ..
فأعاد الضحك بهستيرية وقال :
„ لأ .. لأ .. أنا أقصد السيد الطعم ” »
فقلت له :
„ يا بني.. السيد الطِعِم بتاعك ده.. ولا الطُعُم.. ده يبقىٰ مين.. يا محترم!؟..
فقال :
„ زميلك.. يا أستاذ.. في المدرسة الإبتدائية.. زي هو ما بيقول مدرسة « سيد درويش » الإبتدائية.. هو إنتَ موش ڪنت فيها في مرحلة الإبتدائي.. يا جنتلمان! ” ..
فقلت لجميع الوقوف معنا :
„ نعم.. نعم.. صحيح.. أنا ڪنت في مدرسة « سيد درويش » الإبتدائية.. طيب ليه! ”
ثم توقفت عن أڪمال الحديث وقلت :
„ طيب ليه بتسأل.. وآيه هي الحڪاية.. ما توضح ڪلامك يا أخي.. بلاش ألغاز.. أمال!؟ ” ..
فقال :
„ طيب.. طيب.. صبرك بالله.. هو دلوقت راح يجي يقابلنا ڪلنا.. وإنت راح تشوفه وراح بالطبع تعرفه.. أنا أتفقت معاه إنه يجي النهاردة.. وهو عارفك ڪويس.. جداً.. ڪويس قوي.. قوي.. قوي ” ..
وأڪمل ضحڪه..
ومرت الثواني ڪأنها ساعات طوال في إنتظار هذا الضيف المجهول..
وإذ مِن الخلف.. يأتي شخص ما ويضع يديه الناعمتين فوق عينيا وعلىٰ وجهي.. ويقول بصوت رخيم اقرب إلىٰ صوت النساء :
„ إنتَ عارف أنا مين.. يا برنس!؟ ”..
وهذه الاسلوب في التحية أو تلك المداعبة لم أعهدها مِن قبل.. إذ أننا جميعاً شباب.. ونتسم بالرجولة القحة ونسعىٰ لإظهارها ونريد تبيانها.. وتظهر علينا علامات الفحولة.. ونعمل علىٰ تفعيلها.. ولم نعد أطفالا صغاراً نلهو دون مراجعة أو مراقبة أو محاسبة أو ما زلنا صبيان نلعب في الحواري والأزقة أو الشوارع.. ونجري وراء بعض.. أو نجري وراء عربية البلدية بتاعة الرش.. فــ يداعب بعضنا بعضاً بتلك الطريقة.. أو بهذا الاسلوب! ..
فما ڪان مني إلا أن أمسڪت أصبعه الأصغر ولويته إلىٰ الخلف.. لأعرف مع مَن أتحدث؛ فقد ڪنت أمارس رياضة : « الجودو » منذ سنوات طوال.. وأعرف بعضاً مِن حركات الدفاع عن النفس.. واستدرت لـ أواجه ذلك الشخص الظريف في تحيته معي.. فإذ بي أرىٰ شاباً أقرب إلىٰ الفتيات في ڪل شئ.. في وقفته.. ولون قميصه.. وتسريحة شعره.. وڪيفية نطقه.. وليونته.. وميوعته وسعيت بأسرع ما تساعدني استحضار الذاڪرة لمعرفة تلك الملامح..
ثم ناداني بإسمي الأول.. وبعد لحظة أڪمل بلقب عائلتي.. ثم قال :
„ أنا سيد. إنتَ موش فاڪرني ولا آيه يا برنس!.. إنت يا ولد يا أَمُور.. آيوه عليك.. يا شقي.. يا عڪروت.. ” ..
.. تڪهربت الوقفة أمام الحضور وأمام المارة من الناس الغرباء.. وتلعثم لساني.. فلم أعد في استطاعتي أن أڪمل الحديث.. وهنا علت ضحڪات الجميع بدأها سيد نفسه؛ لڪن ضحڪته الفعل حريمي. ضحڪة نسونجية..
وتحجرجت الحروف في حلقي.. فلم أعد قادراً علىٰ إخراجها..ڪما لم أعد متمڪنا من التلفظ بما ينبغي أن يقال له بعد سنوات طوال لم نتقابل..
أأرحبُ به!؟..
ونتعانق ڪـ تحية الشباب أو الرجال مع تقبيل الخدين!؟.. وهي.. -أقصد- وهو بالفعل زميل دراسة.. ودراستنا في الإبتدائية ڪانت المدرسة بنين فقط لا يوجد في ذلك الزمان مدارس مختلطة..
علت أصوات الضحك؛ فما ڪان منه إلا أن عانقني وقبل خدي.. واقتربت رقبته من أنفي وڪأني شممت عطراً نسائياً مشهورا في تلك الأيام وهذا الزمان.. عطر فرنساوي مِن النوع الغالي..
تڪهربت مرة ثانية الوقفة.. فلم أعد قادراً علىٰ التلفظ بأي شئ.. إذ ڪنت صاحب رجولة متميزة بين اقراني.. وأدعي أنني أملك فحولة تربيت عليها منذ أن علمتني السيدة : « فوزية » أنني -أولاً- ذڪر وأنني لن ولم أُلحق بحريم البيت أو أدخل في زمرة بقية نساء المنزل.. وعلمتني -ثانياً- ڪيف أڪون -بالفعل- رجلاً بين الناس من حيث الحديث والڪلام والمواقف والتصرفات.. وڪيف أمشي وڪيف أتحرك.. وڪيف أتصرف مع الذڪور أو مع الرجال.. فهو -الجنس الخشن- صنفان؛ إذ أن الذڪر -منهما- تحرڪه بعض قطرات من الهرمونات والتي تفرز في دمه فيتحرك دون عقل أو إدراك ليشبع رغبة ما ڪما وتحرڪه جوعة معدته.. أما الرجل فهو يملك تلك الهرمونات -بالطبع.. وأيضاً- باعتباره ذڪراً بالإضافة إلىٰ مجموعة مِن القيم العليا يفعِلها في مشوار حياته.. وڪتلة مِن المقاييس السامية يستند إليها في تصرفاته.. وحزمة من القناعات الرائعة تحرڪه بين الناس -رجال ونساء- ومجموعة من المبادئ العالية يلتزم بها.. وڪأن هذا الــ : « سيد » الطارئ.. الطارق قبيل إنتهاء زمن الغروب في ذلك اليوم؛ وقبل دخول الليل.. مر عليَّ في لحظته تلك.. فدمر أمام اصدقائي الوقوف أمامي وأمام المارة من الناس تلك الرجولة.. فاسقطها علىٰ بلاط محطة الترام.. بل حطمها.. وبعثر تلك الفحولة فتناثرت من حولي.. وڪان يجب بأسرع مِن البرق أن استجمع قوايَّ العقلية وقدراتي الذهنية لأخرج من هذا الموقف الصعب المذل المزري الذي لم يسبق لي أن وُضعت فيه.. ڪـ ذبابة سقطت في صحن العسل.. فاحتار صاحب الصحن ماذا يفعل بالذبابة.. أيغمسها في الصحن أو يلقيها علىٰ قارعة الطريق.. أو ماذا يصنع بالعسل أيسڪبه في التراب ويتخلص منه.. أم يتخلص بڪل الصحن.. ويڪسر الطبق!
بالطبع مرات ثوان.. وبالقطع لم تڪن ساعات.. ڪي أخرج من تلك المصيدة.. وذلك الفخ..
وڪان مِن المتعارف عليه أن ڪل منا يضع لرفيقٍ ما منا : « مصيدة » أو : « مقلب » ساخن ليڪون مادة سمر تلك الليلة أو مادة تنڪيت لــ تلك الأمسية.. وجاء الدور عليَّ..
وهذا الصاحب بالقطع ڪان يعرف حال وهوية هذا الــ « „ سيد ” » ..
تعالت أصوات الضحك من ڪل الحضور الوقوف معي.. حتىٰ صارت المارة تضحك لضحڪنا دون معرفة ما يضحڪنا.. أو يبتسمون ويمشون.. وصارت الفتيات ينظرن إليه : « سيد » بنظرات ساخرة مريبة.. إذ أنه يشبههن في تصرفاته أو وقفته أو ميوعته أو ليونته.. خاصةً مَن تأتي من بعيد فتراقبه أو تلاحظه.. وتبتسم ابتسامة نعرف مغزاها.. أننا نقف علىٰ الطرف الآخر من الطريق!.. أي أننا من هؤلاء.. المنبوذين.. الشواذ!!!
لم يحلحل الموقف إلا صاحب المقلب/الفخ -في نظري- فقال بهدوء وتعلو وجهه إبتسامة بلهاء لا معنىٰ ولا مغزىٰ لها.. فهو لم يَرِد بالفعل إحراجي بهذه الصورة.. :
„ إذاً.. أنتما تعرفان بعضڪما البعض جيداً.. أليس ڪذلك!.يا برنس.. ” »
استخدم نفس لفظته!
ثم وجه القول إليَّ :
„ يا لورد.. لا تغضب مني.. أحببت فقط أن أعيد لك ذڪريات جميلة منذ زمن الطفولة البريئة.. زمن المدرسة الإبتدائي.. لأن الأخ سيد بيقول أنه لم يراك منذ تخرجڪم من الإبتدائية! ” »
ثم أنفجر ضاحڪاً وانفجر الجميع يضحڪون باصوات مجلجلة في محطة ترام الرمل.. وهذه في هذا الوقت تڪون مڪتظة بالمارة.. مَن يريد الذهاب إلىٰ السينما الحفلة المسائية أو مَن يريد التنزة على ڪورنيش الْإِسْڪَنْدَرِيَّةِ أو ما يريد رڪوب الترام لزيارة اقاربه في الرمل فقد ڪانت نهاية هذه الترام محطة سيدي بشر ..
قررت مغادرة المڪان.. فما ڪان منه إلا أنه اراد مرافقتي حيثما شئت.. واين ذهبت..
قال لي سيد :
„ اريد أن اسلم علىٰ طانت ” ..
فقلت له :
« „ طانت مين يا روح أمك ” ..
فقال بميوعة لا أتحملها « „ أمك إنت.. يا برنس ” ..
فقلت له علىٰ الفور :
„ يخرب بيت أمك.. أم مين إللي عاوز تتعرف عليها.. يا ابن المره إللي فست ما حست.. أمي أنا.. يا فضيحة الْإِسْڪَنْدَرِيَّةِ بحري وقبلي عليَّ يا رجاله! ” ..
فرد مبتسماً وڪأنه اعتاد علىٰ الشتيمة والإهانة :
„Charmant .. يا خواتي عليه.. أَحِه عليه ”
فقلت ونحن مازلنا في الطريق :
„ شرمانت.. مين يا بن الشَرْمُــــــــــــ... ” »
وتوقفت مباشرة عن إڪمال التلفظ.. وسرنا خطوات ودخلنا بيت الوالد وقلت لأمي :
„ معايا ضيف.. عاوز يسلم عليكِ ”
فما ڪان منها إلا أنها رحبت به وڪأنها تذڪرته زمن طفولتي في مدرسة : « „ سيد درويش الإبتدائية ” » وقدمت له حق ضيافة ..
وما أزعجني حتىٰ اليوم أنه حاول معي أن يجرني إلىٰ الهاوية.. ويقذفني في مستنقع رذيلته.. فما ڪان مني إلا أن قمت بضربه في صدره.. فتألم وغادر المنزل.. ولم اراه منذ ذلك.. الحين.. ..
توقف „ رفيقي ” عن الحديث وسڪت طويلاً..
ثم قال :
„ الظاهر أن الشواذ مِن الجنسين لم ينتهوا مِن العالم بعد.. والمسألة ليس ڪما يقول البعض أنها جينات موروثة أو حالة مرضية بل هي اسلوب تربية وطريقة معينة في تنشأة الأطفال وتعليمها ”
ثم سڪت..
وبدء يتڪلم فقال :
„ طريقة تربية الأم لوحيدها أو لطفلها أو طفلتها.. أو يأتي الولد الذڪر بعد عدة بنات قبله في الأسرة ڪـ حالة سيد هذا فيبدء في تقليد أخوته البنات الأڪبر سناً منه في ڪل شئ.. وهذا ما كان يفعله في الصفوف الإبتدائية.. فقد ڪانت أخته الڪبرىٰ مُدَرِسة في نفس مدرسته ومدرستي مع غياب القدوة أو غياب دور الأب.. وقد تأتي تجارب سيئة مبڪرة لكل منهما -الطفل/الطفلة- أو إعتداء من نوع ما.. فيعتاد علىٰ اسلوب معين في الإشباع.. خاصة في المجتمعات المغلقة.. ڪـ العادة السرية عند الطرفين وما يترتب عليها من مشاڪل عند الممارسة الفعلية مع الجنس الآخر.. ”
لاحظتُ أن „ رفيقي ” قد اُرهق هذه الليلة.. فرغبت في إنهاء المناقشة معه.. فقمت علىٰ الفور من مقعدي قائلاً له:
„ أنا لسه ما صلتشي العشا.. إنتَ صلتها!؟ ”
فرد قائلاً :
„ لأ! ”
فقلت له :
„ طيب قوم جدد وضوءك! ”
وقبل أن يقوم قال متمتماً.. فلم اسمع جيداً ما قال..
ولعله قال :
„ هناك أماڪن عدة أعترفت رسمياً بحقوق المثليين والشواذ.. فاللهم ارحمنا منهم !!! ”
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــــــــ ـــــ ــــ
[(*)]Die Höhe des zu zahlenden Betrages liegt bei der katholischen Kirche in Österreich bei 1,1 Prozent des lohnsteuerpflichtigen Jahreseinkommens des jeweiligen Beitragszahlers und in der evangelischen Kirche bei ca. 1,5 % des lohnsteuerpflichtigen Jahreseinkommens ebenfalls des jeweiligen Beitragszahlers..
[(**)] كــ د. طه حسين وعلي عبدالرزاق.. وهذا الملف الشائك منشور في عدة صفحات بين الحقيقة والمكايدة
[(***)] معنى العَنْتَرُ : الذُباب الأَزرق..
[(٢)] الجزء الثاني : « القصة بدأت »
﴿ رُوَايَّةُ : « „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ” ».﴾
[ 52 ] سيد اَلْطِعْمْ
« وَرَقَةٌ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ ».ڪتبت في فيينا Vienne - لحظة إطلالها علىٰ الدانوب الأزرق
(د. مُحَمَّدُفَخْرُالدينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ؛ الْإِسْــڪــَنْدَرَانِيُّ؛ ثم الْمِصْرِيُّ؛ ومَحَلَّة: فيينا Vienne).
الإثنين: ٢ ربيع الثاني 1445 هــِ~ 16 أكتوبر 2023 /.


ج1 2022 >>

[ 51 ] ورقات قاتمة.. صفحات سوداء

.. „ ڪي تستقيم حياة الإنسان.. ينبغي أن توجد له زواجر حسية أو معنوية.. تمنعه مِن القيام بعمل ما؛ وتوقفه عن تصرف ما سوف يفعله، وينبغي أن توجد عنده عوائق جسدية أو موانع روحية أو إضاءات عقلية ترغمه عن عدم الاقدام علىٰ عمل ما؛ ڪما وينبغي أن توجد فيها -عموم الحياة- فيروسات وميڪروبات تنتقل إليه فـ تصيبه بـ أسقام وأوجاع وأمراض وعلل؛ وحتىٰ جهاز المناعة عند الإنسان قد يتعطل لسبب ما أو علة ما فلا يقدر علىٰ مقاومة عنصر حي يدخل إلىٰ جسده فيصيبه بمرض ما أو عطل ما؛ لذا تجد بين ثنايا الطبيعة.. وفي زكيبة[(*)] العطار وفق الطب الشعبي التقليدي.. وعلىٰ أرفف الصيدلية أدوية مستخلصة من نباتات أو أعشاب لرفع مستوىٰ مقدرة المناعة عند الإنسان[(**)].. وانظر إلىٰ الخلايا السرطانية داخل التڪوين البشري؛ لا يعلم علىٰ وجه الدقة سبب وجودها.. فقد تڪون لعامل وراثي أو لتقدم العُمر.. وإن وجدت علاجات متنوعة للقضاء علىٰ هذه الخلايا؛ ثم يليها تأهيل طبي ونفسي.. ڪما ينبغي أن توجد فيها -الدنيا- زلازل وفيضانات وبراڪين وڪوارث ومصائب وحوداث سير ومرور.. وتصادم قطارات.. وغرق مراڪب.. وسقوط طائرات.. ويحيط بالإنسان ڪائنات/حيوانات شرسة أو مفترسة أو شريرة أو مؤذية.. هذه ڪلها ڪي تنبه الإنسان؛ أنه لا ولن يعيش بمفرده ڪما يريد ويرغب؛ وتمنعه مِن التصرف الآحادي في هذا الڪون.. بيد أن الواقع خلاف ذلك تماماً فقد أفسد الإنسان بتصرفه الآحادي البيئة مِن حوله.. ولا تغفل المعارك التي نشبت بين مجموعتين مِن البشر وقيام حروب أهلية علىٰ قدم وساق لأسباب تافهة وحروب عالمية وإقليمية والإبادة الجماعية لـ تصفية عِرق مِن الناس بعينه.. التأريخ الإنساني شاهد علىٰ مأسي الإنسان مع أخيه في الإنسانية.. الإنسان.. ثم دخل الإنسان في زمن العلم الحديث التجريبي مِن خلال المعامل والمختبرات والتحليلات والأجهزة العلمية.. ” .. .
توقف „ رفيقي ” عن إڪمال حديثه.. ونظر إليَّ وڪأنه يريد أو يرغب في معرفة رد فعلي أو قولي لما قاله ...
فقلتُ علىٰ الفور :
„ علىٰ الإجمال ڪلام معقول.. غير أنه يحتاج إلىٰ أمثلة توضيحية أو براهين عقلية أو دلائل مِن أحداث الحياة!؟ ” .
فابتسم ابتسامة عريضة ظهرت منها نواجذه؛ واعتدل في ڪرسيه وبدء يقول :
„ .. منذ بداية الخليقة.. وحين لم يوجد أحد من البشر بعد علىٰ سطح الأرض المسڪونة أو المعمورة بجنس إنسان.. وجد أمر ونهي مِن خالق الڪون والحياة والإنسان.. وجاءت صيغة عبارة الأمر واسعة جداً تحوي الڪثير.. أولاً : {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } ثم تلىٰ الأمر هذا بـ صيغة النهي.. وڪانت محصورة في أضيق حيز من المنع: {وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِين} انتبه لهذا التعبير القرآني : {وَلاَ تَقْرَبَا} ولم ينطق القرآن بالقول : {وَلا تَأكُلاَ} فجاء النهي مشدد بعدم الاقتراب.. أو الدنو مِن تلك الشجرة؛ وقد عُميَّ عن نوع الشجرة ولم يفصح عن نوع ثمرتها؛ وهذا قد يڪون لحڪمة.. فتحدث علماء يهود وتبعهم علماء الإسلام مِن بعدهم عن نوع الثمرة.. وهي حالة إنسانية طبيعية.. ترغب في المعرفة.. بيد أن ما أغفله القرآن الڪريم يصح إغفاله بل ينبغي في الشرح والتفسير والتأويل ترك البحث فيه.. وهناك إشارة بليغة جاءت في نفس الآية بأن الاقتراب من تلك الشجرة سيترتب عليه أن :{يَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِين} وغالب الفهم -هنا- أن الظلم سيڪون وسيقع علىٰ نفسيهما.. أي علىٰ آدم المخاطب الأول في هذه القصة القرآنية وزوجه دون ذڪر اسمها.. والقصة القرآنية هذه تظهر وجود خامس؛ فــ الحديث القرآني في سورة البقرة -مثلا- تم عن وجود خالق -هذا أولاً- فـ هو -سبحانه- يتحدث مع خلق مِن مخلوقاته؛ ويخبرهم وهم ملآئڪته -وهذا ثانياً- فـ يتحدث الخالق سبحانه لـ حڪمة دون استشارة مخلوق أو طلب معونة.. في أنه سيخلق جنس جديد غير موجود مِن قبل وسـ يبدء بـ آدم -وهذا ثالثاً- ثم سيخلق مَن هي سڪن له وسيڪون بينهما مودة ورحمة.. وجعل تلك العلاقة بينهما علامة -آية- من علامات -آيات- وجوده الأزلي ڪقادر خالق مبدع مصور.. دون ذڪر اسمها.. زوج آدم -وهي رابعاً- وستر اسمها ليس ستر لعورة الإسم فـ الاسم ليس بعورة بل هو يدل علىٰ مسمىٰ[(***)].. ثم يأتي الحديث في القصة القرآنية عن خامس وهو الشيطان الرجيم؛ وأظهر القرآن قدرته وحددها أنها تڪمن في { وَسْوَسَتِهِ} وفي تزيين الفعل -ڪذبا وزورا- لمن يوسوس له بنص قول القرآن : {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا [(1)]مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ [(2)]الْخَالِدِين} وسعىٰ إبليس اللعين بڪل ما يملك من قدرات إقناعية فتڪلم القرآن عن ما جرىٰ: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِين} {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} ثم تهبط رحمة الخالق فيخبرنا القرآن : {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِين} فجاء الرد منهما في مسألة الظلم مبينا القرآن معناها بالقول : {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين}.. ولم تقف القصة تنبيها عند هذا القول فهي لم تنتهِ بعد؛ إذ نبه القرآن مَن سيأتي من نسل آدم وزوجه بالقول : {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} ثم يأتي بيان عظيم لــ بَنِي آدَمَ بالقول الصريح في القرآن: بطلب : الاستعاذة .. {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ} الذي جاء وصفه بأنه {الْخَنَّاس} {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس} {مِنَ الْجِنَّةِ} هذا صنف؛ وهناك صنف آخر وهو {وَالنَّاس}.. وجاء في موضع آخر : {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين} . والهام أن المسائل الغيبية.. والتي لا يستطيع الإنسان العالم أن يضعها في المختبر أو يطلع عليها بقدراته -إذ أنها غير محسوسة أو ملموسة أو مرئية أو مسموعة أو مشمومة- تبحث علىٰ القدر الذي جاء في النص القرآني باعتباره ڪله قطعي الثبوت؛ أي وحي مِن عند الله تعالىٰ.. تتبقى المسائل والتي هي ظنية الدلالة.. فتبحث علىٰ قدر ما جاء في صحيح التنزيل من سنة محمدية نبوية... ” ..
فقلت لــ : „ رفيقي ” :
„ لقد أرهقتني في بحثك هذه الليلة!. ” ..
فقال ضاحڪاً :
„ أوعىٰ تنام مني.. الليل لسه طويل يظهر من يوم النهار ده.. وبڪرة عطلة رسمية.. يعني راحة.. لا فيه دراسة ولا حضور في ڪلية.. وڪمان جت في نهاية إسبوع؛ يعني النهارده الخميس؛ فالجمعة والسبت والأحد ڪل الدنيا قافلة.. حتىٰ بتوع الجبنة والزيتون! ” .. .
فابتسمنا وقلت له :
„ لسه عندك جديد تحب تضيفه؛ ولا أقول لك.. اصبر شوية.. أقوم أعمل ڪوبيتين شاي عَجَب علىٰ ميه بيضه.. شغل المعلم حنطوره ”
فقال „ رفيقي ” بسذاجة ولاد الذوات تربية خادمات تحت السلم من نجع أبناء البلاص؛ وبراءة الأطفال في عينيه :
„ يبقىٰ مين المعلم حنطوره ده.. يا أبو المعلمين!؟ ” .
فقلت مسرعاً؛ وهي فرصة أبين جهل صاحبنا :
„ حنطوره.. المعلم حنطوره.. بقىٰ فيه حد فيكِ يا إِسْكَنْدَرِيَّةِ ما يعرفش المعلم حنطورة القُلَلِي بتاع ميناء الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ البحري لمَّا بينزلوا التجار بضائعهم.. قبل ما يفتحوا مطارها الدولي.. ”
ثم قلت له :
„ إنتَ إِسْكَنْدَرِانيَّ بجد.. ولا مزيف ولا معاك ڪارت عبور يعني مرور ترانزيت!.. لڪنك نسيت.. تڪونش -ياض- ضارب فيزا دخول -ياله- من علىٰ مرڪب يوناني قبل التحميل أو إثناء التنزيل.. شڪلك ڪده ما يطمنش.. بصراحة.. الواحد يخاف منك.. يخاف الواحد يقعد أو يمشي جنبك.. علىٰ ڪلٍ -يا أبو المفهومية- نفهموڪم وأمرنا لله.. وأهو نڪسب فيكم ثواب ورزقنا علىٰ الله.. بقىٰ شوف يا بني.. أصل الست أم حنطوره دي.. وهو -يعني- وهو صغير ڪانت بتقوله.. لما أنزل بيك إِسْكَنْدَرِيَّةِ البلد راح أفسحك بحنطور عمك عوضين بعد ما ساب الفلاحة في الأرض.. وعلىٰ ڪورنيش ترعة المحمودية وإنت جاي مِن محرم بيك ونازل علىٰ الرصافة!.. ها أَوّ.. شربتها يا غشيم.. قبل ما تشرب ڪباية الشاي المقطوع قلبها مِن الغليان.. معلش حبيت أهزر معاك.. لأ.. لأ.. راح أعملك ڪباية شاي.. بس علىٰ ميا بيضا!!”
فقال لي مقاطعاً :
„ يا عم.. إنتَ راح تحڪي لي قصة حياته مِن يوم ما جابته أمه.. أرحمني يا شيخ مِن العذاب.. تعالىٰ نتڪلم جد شويه!.. وخلصنا من ڪباية الشاي ديه ”
فقلت له :
„ خلاص.. خلاص.. طيب قُول يا سيدنا ما تزعلش! ”
فقال :
„ .. بالقطعِ.. ڪلُ إنسانٍ منا.. يملكُ في خزانةِ ذاڪرته ورقاتٍ قاتمة قد يعيد مراجعتها منذ زمن طفولته الواعية.. المدرڪة لما فعل.. يتذڪرها حين يڪون بمفرده.. سواء حُڪيت له مِن قِبل ذويه؛ خاصةً والدته.. وهي التي تحملت الڪثير منه.. ومِن أفعاله.. أو قالها له مَن يڪبره سنا مِن إخوته أو اقاربه أو معارفه.. ” ..
ثم توقف „ رفيقي ” عن الاسترسال في الحديث.. ڪأنه يحاول إعادة ترتيب افڪاره أو تنظيم ڪلماته وجمله.. أو هو نفسه يراجع أحداث له منذ طفولته الواعية المدرڪة.. حسب تعبيره.. ثم رفع حاجبيه وأمعن النظر في صورة ڪأنها أمامه.. أظن أنه تخيلها أو رأها بالفعل وقال :
„ .. وقد تڪون بالفعل ورقات مخجلة فــ تلونت بلون قاتم يريد المرء إخفاءها حتىٰ عن نفسه أو مسحها مِن ذاڪرته ” ..
وأعاد النظر.. يتمحلق خياله في أشڪال أو شخوص تقف أمامه.. وهو يراها بنفسه لم يطلعني عليها.. وقال :
„ .. وقد تڪون أحداث جرت في سنوات الصبا المبڪرة.. ”
ثم توقف تماماً عن الحديث وأعتقد أن رئته توقفت تماماً أيضا عن سحب الهواء بشهيق وإن لم يڪن مسموع أو طرده بــ زفير ساخن.. ومرت تلك اللحظة ڪأنها سنة عليه أو تزيد ..
وقال بحجرجةِ صوتٍ عال :
„ .. و.. أما ما يؤلم حقاً وصدقاً فهو ما قد جرىٰ في زمن المراهقة من عبث متنوع الإشڪال والصور.. وقد تطول .... ” .. .
وظهرت علىٰ نبرة صوته حالة مِن التألم والحزن الدفين.. قائلاً :
„ .. قد تطول فترة المراهقة هذه عند البعض.. وما قد لا يُغتفر .. ”
وسڪت عن الحديث.. وڪأنه يريد تجميع قواه الذهنية ليڪمل مقالته :
„ ما قد لا يغفر حقاً .. فهي تصرفات وافعال وأقوال تمت في فترة.. فترة الوعي المصحوب بنزعات بشرية ومطالب آدمية غير أنها غير متبلورة بصورة صحيحة في الذهن تتأرجح بين الحلال البين والحرام الغامض أو ما يسميه العامة من الناس « „ العيب ” » .. فقد دخل هذا الڪائن المڪلف زمن الشباب المبڪر.. أو.. وقت الشباب الوسيط.. أو.. عصر الشباب المتأخر قبل مغيبه لشيخوخة تمرضه.. وهي ثلاثة فترات زمنية مرهقة للغاية .. ”
فـ أوقفته عن الحديث مقاطعاً قائلا :
„ يا دڪتور .. ده تقسيم عُمْرِي جديد لم اسمعه مِن قبل.. فضيلة الدڪتور.. يا حضرة المحلل النفسي الملهم.. إنتَ جبت التقسيم الجديد ده منين.. شباب مبڪر وآخر وسيط وثالث متأخر.. يا سيادة... .. ” ..
فــ أڪمل غير مراعياً ما قلته له؛ ولم يترڪني أڪمل جملتي :
„ ثلاثة فترات زمنية شبابية مرهقة جدا للإنسان وشاقة للغاية ” »
.. وڪأنه يريد توثيق هذه النظرية في ذهنه أولاً.. ڪي يحسن التعبير عنها أو برهنتها ثانياً.. وقال :
„ هذه الفترات الزمنية الثلاثة.. إذ ڪأنها امتداد زمني غير منظور تلي لفترة وزمن المراهقة أو بمعنىٰ آخر غير محسوب معها بالفعل.. إذ أن نتيجة ثورة الشباب وعنفوانه وتدفق هرمونات الشباب والذڪورة.. ونضع هرمونات الأنوثة ايضاً.. في ڪافة أنحاء جسمه وفي ڪل قطرات دمه يصاحب ذلك فوضىٰ فڪرية علىٰ أنغام وموسيقىٰ وأغاني مثل : حبك نار يا حبيبي نار.. نار.. فـ قد يقدم المرء علىٰ أفعال وتصرفات ومواقف سطرت في غرائزه فــك رموزها بأفعال و ڪُتبت في صفحة أعماله وڪتاب سيعرض عليه يوم قيامته ”
ورفع يده اليمنىٰ ملوحاً في فضاء واسع وهواء فسيح ڪأنه يعترض علىٰ جملته الآخيرة وقال :
„ في الطفولة المبڪرة يجمع معلومات شتىٰ قد تڪون متعارضة أو غير منسجمة مع بعضها البعض.. .. مِن عدة مَصادر مختلفة ومتنوعة ولا تتفق في صحة الـ معلومة الواحدة.. ڪالبيت الذي تربىٰ فيه وأيضاً ڪبير أسرته.. أقصد أسرته الڪبيرة.. يعني بقية افراد عائلته.. ثم ما يسمعه مِن الشارع من رفاق لعبه أو مجرد حين مروره بجوارهم.. وما قد تلتقطه اذنه مِن المذياع أو ما يسمعه ويراه مِن التلفاز سواء مسلسلات أو افلام أو برامج منوعات.. والأن صارت ألعاب الأطفال بالصوت والصورة وبالألوان.. ” ..
يبتسم „ رفيقي ” وهو يقول :
„ ڪانت لعبي في صغري والتي أحضرها لي والدي مِن الخشب.. بقايا خشب النجار للموبيليا.. ما زلتُ أذڪر المحل ده.. ”
ثم توقف تماماً عن الحديث.. واردف قائلاً :
„ هناك مؤسسات حاولت امتصاص حالة القلق -هذه- أو سمها التفريج عن مڪبوت الغرائز عند البعض.. فمؤسسة السينما حاولت أن تظهر الساقطة في بئر الرذيلة أو الداعرة الواقعة في بحر العسل المر أو الذي جعلوه مجرما والمفسد لضيق معاشه وقلة دخله.. تظهر أمثال هؤلاء بصورة الضحية.. فيتم التعاطف معهم أو قبولهم.. مؤسسة السينما حاولت إظهار هؤلاء بصورة ما.. وڪأنها تريد بشكل غير مقصود التنبيه أن المجتمع فيه هذا الطالح وذاك الصالح.. أو أنهم لم يخلقوا مجرمين عاصين وأن الآخرين لم يخلقوا شرفاء طائعين.. لڪن البيئة والعَوز والفقر والحاجة.. جعلت البعض بقدم علىٰ الإجرام.. وڪأنك لست بمفردك في خضم هذا الموج العاتي من إشباع الرغبات الڪامنة في النفس البشرية؛ وتسڪين الشهوات.. أو إشباعها.. بأي طريقة وباي ڪيفية.. فتجد ملازم ومرافق لڪل فيلم مناظر لراقصة تحسن الرقص الشرقي وتتقنه وتظهر مفاتنها.. وترىٰ بارا لاحتساء الخمر؛ وإن ڪان المشهد لا يتطلب هذا المنظر أو ذاك؛ وترىٰ الروايات الخليعة تترجم مِن ڪلمات في قصة علىٰ الورق إلىٰ فيلم مسموع ومرأي ويقبل عليه الجمهور وترىٰ طابور طويل علىٰ شباك التذاڪر.. بضاعة رائجة .. ”
ورأيتُ العرق قد تصبب مِن فوق جبينه.. وتساقط علىٰ جانبي وجهه.. ولست أدري أمِن ڪوب الشاي.. الذي مازال ساخنا في يده أم من استحضاره لتلك المواقف والصور ..
ثم قال : „ فهذه مؤسسة ربحية يهمها دخل الشباك مِن جيوب المتفرجين.. ويقابلها مؤسسة آخرىٰ تڪتسي ثوب ڪهنوتي زائف.. وترتدي.. مُسوحَ الرُّهبان: فــ تتظاهر بالبراءة والطِّيبة ” ...
توقف بالفعل عن الحديث وظهرت عليه علامات الحزن أو الشفقة وڪأنه أسرع في إطلاق حكم عَمَمَهُ علىٰ الڪثيرين ممن لا يستحقون هذه الصفة أو من شدة وطأة هذا الحكم علىٰ البعض منهم..
ولڪنه أڪمل قائلاً :
„ ومن فوق منبر الجمعة يتحدث فارس المنابر ڪمثال -رحمة الله عليه.. مات..- عن عيوب الأفلام ومفاسد : « „ المفسديون ” » .. فــ فضيلته لا يملك إلا الوعظ والارشاد.. وهو ڪان محضر شنطة هدومه تحت منبره.. لو جُم زوار أمن الدولة لأن الخطبة ڪانت نارية علىٰ بعض الأجهزة أو المواقف ” » ..
ثم يعتدل في مقعده وهو يقول :
„ .... وتڪتمل الصورة الڪهنوتية فوق ڪرسي الاعتراف.. وهي فڪرة بشرية حطمت صورة التواب فهي صورة عملية واختراع رائع لما يسمىٰ بعملية التنفيس عما ارتڪبه المرء منا من أفعال.. فڪل منا له صديق أو صاحب ينفس له عن همومه.. ويحڪي ويخبر ويقول ويعيد.. ثم جاء المحمول المجاني تتڪلم للصبح عن نفسك وعن جارك وعن الناس إللي في الشارع عن ڪل شئ ... سميها غيبة.. نميمة.. أهو تنفيس.. ”
وأخرج ڪتاباً أراد أن يقرأ منه.. ولم أدر ما اسم الڪتاب أو مؤلفه.. وقال بصوت خفيض أڪاد اسمعه :
„ خلقَ اللهُ الإنسانَ وجعله يمر بمراحل وأزمنة وفترات عُمرية متنوعة ومختلفة وأمڪنة وأحوال ومواقف ويقوم بأعمال وتصرفات.. وينطق ويتڪلم.. ثم تنتهي حياته بالموت.. والقرار والخلود.. إما في الجنة أو النار. ”
ثم قال :
„ تمام ڪده!؟ ”
فقلت له :
„ تمام عندك.. وعند أمثالك.. مَن هم علىٰ شاڪلتك ” ..
فرد مسرعاً :
« „ طيب فين الغلط في ده يا بني.. يا حبيبي!؟.. ” ..
فقلت له :
« „ ما فيش غلط.. بس دي وجهة نظر معتبرة عند البعض من البشر؛ موش ڪلهم.. وهم المؤمنون بوجود خالق.. أوجد مخلوقاته من عدم.. منظم للڪون وجعل حياة الناس وفق أوامر ونواه.. وأفعل أو لا تفعل.. وحلال وحرام.. فأرسل الرسل والأنبياء.. بس فيه غيرك ڪثير لهم وجه نظر مخالفة تماماً لما تقول! ” »
توقف مفڪرا لما أقول؛ وڪأنه أراد تعدية هذه الجزئية من النقاش؛ وقال :
„ .. .. والمراحل والدُّور التي يمر بها الإنسان أربع.. ” .
فقلت له بهدوء حذر :
„ قول يا شيخ.. نسمع منك.. ونستفيد.. أقصد أقرأ من عند ڪتاب شيخك!” .
فقال :
„ المرحلة الأولىٰ.. يا سيدي.. وما سيدك إلا أنا.. تڪون في بطن الأم: ينشأ ويتڪون الجنين في رحم أمه رغما عنه وليس بإرادته.. فهو لم يتخير أمه هذه والتي تحمله في أحشائها .. ” .وهي أول مرحلة يمر بها الإنسان، وأول دار يسڪنها، وإقامته فيها تسعة أشهر، هيأ الله العليم القدير له في هذه الدار المظلمة ڪل ما يحتاجه من الطعام والشراب، وما يناسبه من السڪن والمأوىٰ.. وهو في هذه الدار غير مڪلف بعمل؛ لعجزه وضعفه ” »
فقاطعته قائلا :
„ إنتَ نسيت حاجة مهمة قوي.. الحياة في عالم الذَر!؟ ”
ثم استعذتُ مِن الشيطان الرجيم وبسملت ثم رتلت بصوت رخيم : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين} {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُون} .
فقال مهللا ومڪبرا :
„ احسنت .. أحسنت ” »
ثم سڪت ملياً وقال :
« „ طيب.. راح تعمل آيه في الآية.. وإللي بتقول {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}.. أنا أقول لكَ .. آيتان الأعراف وآية النحل ڪل منهما منفڪة الجهة ” ..
ثم قال :
„ ولعل أمثال هذه الآيات تندرج تحت ما يسمىٰ عند السادة العلماء الفقهاء الڪبار : « „ مشڪل الآيات ” » .. انظر لقول أبي هريرة عند البخاري ومسلم وابن حبان يقول المصطفىٰ الهادي :" ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَىٰ الفِطْرَةِ.. " . فهذا متعلق بآيتين الأعراف.. فالفطرة هي الخلقة الأولىٰ علىٰ التوحيد والإيمان بوجود خالق منظم للكون وخالق الحياة والإنسان ” »
. . .واڪمل :
„ والحڪمة من وجوده في هذه الدار.. رحم أمه.. أمران:
- تڪميل الأعضاء الداخلية.. و
- تڪميل الأطراف الخارجية.
ثم يخرج إلىٰ الدنيا بعد اڪتمال خلقه ظاهراً وباطناً... بأعضاءه وأجهزة الحيوية والحياتية.. وبروحه!.. ” .
فقلت له :
„ وهذا مصدقا لقوله تعالىٰ: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } ” » .
. .
. فقال لي :
„ أحسنت.. وجزاڪم الله خير الجزاء ” . . .
وأڪمل :
„ وأما الثانية: فهي دار الدنيا: دار معاشنا المحدود.. وهذه الدار أوسع من بطن أمنا، وهي بالنسبة إليها ڪحبة رمل بالنسبة للجبل، والإقامة فيها أڪثر مدة من رحم الأم... وقد هيأ الله للإنسان في هذه الدار ڪل ما يحتاجه من متطلبات الحياة الآدمية ومِن النعم والنعيم المحدود والمتع الوقتية، وزوده بالعقل الإدراك والسمع والبصر والوعي، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الڪتب، وأمره بالإيمان به وطاعته، ونهاه عن الڪفر والمعاصي، ووعد المؤمنين به الجنة ونعيمها الدائم، وتوعد الڪفار بالنار وعذابها المقيم.. والحڪمة من وجود الإنسان في هذه الدار أمران:
- تڪميل الإيمان.. و
- تڪميل الأعمال الصالحة.
ثم يخرج الإنسان مع عمله مِن هذه الدار إلىٰ الدار التي تليها ”
فقلت له :
„ وهذا مصداقا لقوله تعالىٰ.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. بسم الله الرحمن الرحيم.. قال الله تعالىٰ: { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ }.. وفي موضع آخر قال السميع البصير : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ” .
فقال „ رفيقي ” :
„ يسعدني أنك تتجاوب معي بصحيح الدليل ” ...
ثم توقفنا .. وهنا بادر بالقول :
„ أما الدار الثالثة: دار البرزخ: ودار البرزخ في القبر، والقبر أول منازل الآخرة.. ويبقىٰ الإنسان فيه حتىٰ يڪتمل موت الخلائق أجمعين، وتقوم الساعة.. وإقامة الإنسان فيه أڪثر مِن إقامته في دار الدنيا، غير أن الأنس والبؤس فيه أوسع وأڪمل مِن دار الدنيا، والجزاء فيه بحسب عمل الإنسان في الدنيا الفانية، فهو إما روضة مِن رياض الجنة -فاللهم أجعلها لنا-، أو حفرة -والعياذ بالله- من حفر النار.. يبدأ فيه الجزاء، ثم ينتقل منه إلىٰ دار الخلود إما في الجنة أو النار. قال الله تعالىٰ: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } ” .
وأڪمل مسرعاً :
„ وأما الرابعة فهي الدار الآخرة ... ” ...
وڪأني لاحظت لمعان عينيه ڪدموع حبيسة لا يريد استنزالها .. ثم قال :
„ وفي هذه الدار تڪون الإقامة المطلقة، وهي دار القرار... فمن أڪمل في الدنيا ما يحب الله مِن الإيمان والأعمال والأخلاق، أڪمل الله له يوم القيامة ما يحب من الخلود والنعيم، مما لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولم يخطر علىٰ قلب بشر... ومن اشتغل بما يسخط الله مِن الڪفر والشرك والمعاصي فجزاؤه جهنم خالداً فيها. والداران الأُوليان من عالم الشهادة، والأُخريان من عالم الغيب، وڪلٌّ حق، وڪلٌّ سيراه الإنسان ويعلمه... وڪلما خرج المؤمن من دار زهد فيما ڪان عليه أولاً، حتىٰ يستقر في الجنة.. قال الخالق المبدع المصور تعالىٰ: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } ... وقال الله تعالىٰ:{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ” ...
.. هنا اغرورقت عيناه بالدموع.. وڪأن حديثه في تلك الليلة أعتراف منه علىٰ مقعد الاعتراف بما فعله وقام به في سنوات عُمره السالفة.. ولم ارد أن افاتحه بالسؤال الصريح.. ففي الإشارة بيان واضح للبيب الفصيح!..
فقلت له واضعا يدي علىٰ ڪتفه :
„ الله غفور رحيم و « التائب من الذنب ڪمن لا ذنب له » ” .
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *

ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــــــــ ــ
[(*)] زُكيبة، زَكيبة غِرارة، كيس كبير من الخيش .
[(**)] كدواء : « „ Broncho-Vaxom” » 07 mg .. ثلاثون Kapseln؛ سواء للأطفال أو البالغين.
[(***)] بدليل قول رسول الإسلام -عليه السلام- في هذا الحديث :" - كان أبي من أصحابِ الصُّفَّةِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: انطلقوا بنا إلى بيِت عائشةَ رَضِيَ الله عنها، فانطَلَقْنا، فقال: يا عائشةُ، أطعِمينا، فجاءت بجشيشةٍ فأكَلْنا، ثمَّ قال: يا عائشةُ أطعِمينا، فجاءت بحَيسةٍ مِثلِ القِطاةِ، فأكَلْنا، ثمَّ قال: يا عائشةُ اسقِينا، فجاءت بعُسٍّ من لَبَنٍ، فشَرِبْنا، ثمَّ قال: يا عائشةُ اسقينا، فجاءت بقَدَحٍ صغيرٍ، فشَرِبْنا..
والحديث له بقية فاكتفيت بموضع الشاهد منه!
رواه: يعيش بن طخفة الغفاري؛ انظر : أبو داود؛ في : سنن أبي داود: (5040)؛ الحديث: سكت عنه [وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح] "... وانظر : [السنن الكبرى للنسائي (6619، 6621)، والحاكم (4/ 201). ] . ". .
[(٢)] الجزء الثاني : « القصة بدأت »
﴿ رُوَايَّةُ : « „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ” ».﴾
[ 51 ] ورقات قاتمة.. صفحات سوداء
« وَرَقَةٌ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ »..
فيينا Vienne - لحظة إطلالها علىٰ الدانوب الأزرق
-*/*--
(د . الْفَخْرُ؛ الْإِسْــڪــَنْدَرَانِيُّ؛ ثم الْمِصْرِيُّ مُحَمَّدُ فَخْرُالدينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ .. الرَّمَادِيُّ مِنْ الْإِسْڪَنْدَرِيَّةِ)
‏الجمعة‏، 08‏ ربيع الأول‏، 1445هــ ~ 19 سبتمبر 2023م


ج1 2022 >>

[ 50 ] ضرائب الإغتراب

„ يأتي المشرقي مِن شبة الجزيرة الهندية وما يجاورها مِن بلاد الأفغان وباڪستان.. مع عدم نسيان -حديثاً جداً- وتذڪر رؤية المشهد المزري.. وهي تُقْلِع لمَن تَعَلَق مِن شباب يافع بالطائرة التي تتبع سلاح الجو للقوات الأمريكية العسكرية ثم سقوطهم فرادىٰ في الهواء علىٰ ارض المطار.. قبل مغادرة بلاد الأفغان.. ” ..
هڪذا بدء حديثه معي بعد الإنتهاء مِن تناولنا وجبة العشاء في بيت العزوبية.. ولم تڪن وجبة طعام بقدر ما هي « „ عَكْ ” » عازب في مطبخ غير متوفر فيه شروط الطبخ أو إعداد طعام صالح لبني آدم.. فقط نريد أن تمتلئ المعدة بشئ يسد جوعتها..
تحدث „ رفيقي ” دون تنبيه أو تحديد لموضوع الڪلام..
ثم وڪأن „ رفيقي ” تحسر علىٰ هذا المشهد المزري.. وتألم علىٰ رغبة شباب مغادرة بلادهم مع لحظة مغادرة قوات أجنبية أحتلت أو صنعت ما صنعت في بلادهم.. بغض الطرف عن الڪيفية والطريقة؛ وڪأنه « „ متشعبط ” » في الترامواي وتُنطق «تُرْماي» أو في القطار المتجه « „ قبلي ” ».
وأخذ „ رفيقي ” ينظر في فنجان قهوته ملياً وڪأنه يريد أن يستطلع غيباً توارىٰ خلف حُجب سحابية رمادية اللون في سماء ڪللت بالغيوم.. أو يرغب أن يقرأ ما تبقىٰ علىٰ جدران فنجانه مِن علامات ورموز وطلاسم ورسوم.. ليس لها معنىٰ إلا في ذهن « „ قارئة الفنجان ” » إن وجدت وهي تتحسس تطلعات الشارب او رغباته.. واستطاعت أن تقرأ ما في ذهن الشارب قبل أن تقرأ فنجانه.. فقط تمڪنت وهماً مِن عدة رشفات متتاليات لشارب فنجان القهوة واختلاط ريقه الطاهر بجزئيات حبيبات قهوة ذابت رغماً عنها في ماء مغلي ليعطي لكَ في النهاية هذا المذاق وليس لڪشف غيب لا يعلمه إلا خالق هذا الڪون بما فيه؛ تمڪنت مِن استطلاع ما يصبو إليه.. ولعلها « „ سَبُوبة ” » إسترزاق علىٰ قفا جاهل أو « „ استعباط ” » راغب في استطلاع الغيب ليقدم علىٰ عمل ما أو يمتنع فيقلع عن عمل ما .. ولعل « „ الأزلام ” » زمن عرب الجاهلية قبل الإسلام صورة واضحة لرغبة إنسان لا يملك لنفسه اتخاذ قرار أن يعتمد علىٰ قوىٰ خفية.. أو سَمّها ما شئت..
واذڪر أن „ رفيقي ” حدثني عن تاجرة ڪبيرة في فيينا عاصمة الدولة النمساوية بعد أن صارت جمهورية وليس زمن الإمبراطورية أو الملڪية.. تقوم بجلب أحجار كريمة بملايين الشلنات -قبل تحويل العملة إلىٰ يورو.. ڪانت تعتمد علىٰ قارئة البخت لها وتفعل تماماً ما تقول لها.. سواء بــ شراء الصفقة لإنها رابحة.. أو الإحجام عنها.. لأنها سوف تڪون الخاسرة !..
.. ثم نظر لي بعين حسيرة.. ولقد ألمحت نظرة حزن أو دمعة تريد أن تذرفها عينه الڪليلة ...ثم أڪمل :
„ .. أو يأتي مِن إيران الفارسية بعد زمن سقوط شاهنشاه إيران.. وصعود نجم آية الله خميني حين مجيئه علىٰ طائرة فرنسية لطهران فادماً من باريس.. بعد أن صار شخصية غير مرغوب في وجودها علىٰ الأرضي العراقية ” .
واذڪر أن أحد شباب فيينا.. زميل دراسة خواجة نمساوي مازح „ رفيقي ” ذات مرة بالقول أن الفرق بين إيران والعراق حرفان في البداية والنهاية.. ثم نطق : „ IRAN ”.. „ IRAQ ”.
.. وعاود „ رفيقي ” السڪوت وڪأنه ينظر إلىٰ خريطة العالم -أمام بصره- بقاراته.. وظهر علىٰ اسارير وجهه علامات تعجب أو إندهاش .. لم اتبين فحواها جيداً.. وأن ڪان لسان حاله يقول دون إفصاح ڪم سقطت إمبراطوريات عظيمة ملئت سمع الدنيا وبصرها.. وهدمت حضارات ذات شأن.. وضاع بين رڪام التاريخ البشري أحداث عظام..
ثم تململ في جلسته وشعرت إنه يتهيأ لإلقاء ثقل ثقيل جسيم عظيم مِن فوق عاتقه..
وأعتدل في جلسته بارزاً صدره إلىٰ الإمام.. وهي عادة أرتأيتها فيه حين يَهِم بقول أمر ما يجده مهم.. وهو ما نسميه « „ لغة الجسد ” ».. و « „ حرڪات اليدين ” ».. والحقيقة أن „ رفيقي ” يحسن عدة لغات منها لغة الجسد والتلويح بيده في هواء ولعل هذا يعود لرؤيته العديد مِن الأفلام العربية والأجنبية مع تقمصه -أحياناً- شخصية منها تعجبه.. ثم قال :
„ أو يأتي ذلك المغترب مِن بلاد العرب.. وما اڪثرهم.. ومنهم أصحاب تجارب ناجحة رائعة.. سواء تجارية واقتصادية.. وتفوقوا تفوقاً مذهلاً في مجالات اجتماعية وخدمية وإنسانية.. ڪما وتملڪوا زمام تخصصات دقيقة في العديد من مجالات العلم ” .
ونظر أمامه في فضاء واسع وارتسمت علىٰ شفتيّهِ ابتسامة عريضة بفخر وزهو ڪأنه يستحضر تلك التجارب الرائعة ويستقدم هاتيك التفوقات المذهلة.. وعلت وجهه اسارير الفرح ممزوجة بعلامات النصر وقال سريعاً :
„ ليست هذه التجارب والتفوقات محصورة في عرب المهجر.. فقط.. بل في بقية مَن حضر مِن المشرق.. واسع الأطراف.. عريض المناطق.. ڪثير المدن ومتعدد القرىٰ والنجوع ” .
وتوقف لُحيظة عن الحديث.. ثم اسرع بالقول :
„ .. لڪن العموم.. بقية أهل الهجرة.. غالبية أهل المهجر قدموا نماذج مخجلة.. وقاموا بأحداث مؤسفة.. فـ تتلقف أخبارهم الجرائد الشعبية؛ الباحثة عن الغريب والعجيب ڪمن ينشر أن « إنساناً عضَّ كلباً » ونشرات الأخبار لبعض القنوات الهابطة لتسلية جمهورها العريض ولإظهار ما افسدوه في ديار الغرب وأهله وخاصة بناته ونسائه.. فتڪون آحدىٰ المحصلات لواقع مر مرير صعود تيار اليمين المتطرف.. جداً.. لإثارة الغوغاء من افراد الشعب.. وهذا الصنف -الغوغاء- موجود في ڪل مڪان وفي ڪل زمان.. يتلقف تلك الأخبار.. وهي سميره بليل طويل إما علىٰ ڪوب مِن الشاي طبخ عدة مرات في ڪوخ علىٰ قارعة الطريق يخيم علىٰ الجميع ويعلوهم دخان شيشة حُضرت من معسل التفاح الرخيص.. أو ڪأس بيرة علىٰ رصيف آحدىٰ البارات.. أو "Kaffeehäuser"(**).. آحداها مرتفعة التڪلفة في وسط المدينة، والتي يقصدها أعضاء الطبقات المتوسطة والغنية، والثاني هو المقاهي المعروفة باسم "مقاهي الناس"، وهي مقاهي البسطاء والفقراء في الضواحي.. أو احتساء ڪؤوس النبيذ المعتق في آحدىٰ القهاوي الشعبية.. « „ Heuriger ” » .. وبالقطع فــ „ رفيقي ” » لا ينسىٰ أول استضافة تمت معه مِن مديره في فرع آحدىٰ المؤسسة التي يعمل بها في مقاطعة النمسا السفلى؛ وقد نبهه أنه لا يشرب النبيذ المعتق أو المخمر.. فرد مديره عليه قائلا : « „ ده عصير طازج اليوم من عنب هذه المنطقة ” » وڪانوا قريبين من منطقة بادن رائعة الجمال ” .
ثم اردف قائلاً :
„ وحَدِّث ولا حرج عن مَن يأتي مِن بلاد الترك والنظرة الدونية لهم مع محاولات رئيسهم الحالي في تصليح الصورة أو تلميعها أو تنفيذ ما يطلبه منه الإتحاد الأوروبي من إصلاحات دستورية وقانونية وإدارية في محاولات بائسة.. يائسة ” .
ثم أشار باصبعه في الهواء وقال :
„ لا تنسى أن النساء الألمانيات -خاصة الأرامل أو مَن فقدن العائل والعشير في الحرب العالمية- في محطة قطارات فرانڪفورت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبدء تنفيذ مشروع إعادة بناء أوروبا لـ وزير الخارجية الأمريكي آنذاك « „ مارشال .. George Catlett Marshall ..” » استقبلن العمال الأتراك بالورود.. وتتغير الأحوال فيأتي المستشار الألماني « „ هلموت كول ” » فيعلن أن العائلة الترڪية والتي تغادر الأراضي الألمانية سيدفع لها « „ ٠٠٠,٤٠ مارك ” » والمعلومات التي عندي لم يغادر أحد ” .
„ والهجرة الطوعية أو المغادرة القسرية نتيجة حرب أهلية تأتي محصلة نتيجة الأوضاع المزرية في بلاد يسڪنها مسلمون.. وليس بلاد إسلامية.. ڪفلسطين .. والعراق وسوريا واليمن وبلاد الأفغان والباڪستان وسڪان المغرب العربي: تونس؛ الجزائر؛ المغرب.. ولا تغفل أن ڪل منطقة لها ظروفها الخاصة والتي تحيط بها دون سواها.. وأضف مناطق من سڪان القارة الأفريقية.. إذ يرغب.. بل يريد الجميع بإلحاح.. المغادرة.. أو الهرب أو الحصول علىٰ حق اللجوء السياسي أو المعيشة والبقاء بأي شڪل أو صورة؛ وبغض النظر عن ڪيفية الدخول أو التسرب مِن خلال البحر أو البر.. مدفوع أجر التهريب عبر الحدود.. ومن خلال سيارات شحن الأفراد.. شاحنات الموت.. وقوارب الغرق.. هؤلاء.. وغيرهم يأتون إلىٰ القارة المسيحية الأوروبية ولا أقول النصرانية.. ” .
أوقفت „ رفيقي ” عن الاسترسال في الحديث والاستطراد في الڪلام فـ هو من طبيعته المضي في الحديث مع وجود أخطاء فاضحة إما تاريخية أو من حيث الاستشهاد بـ وقائع أو الاستدلال بـ أحداث.. أو ربط حدث بأخر ليس بينهما رابط حقيقي.. فهو له وجهة نظر بعينها مبنية علىٰ معلومات قد تڪون موثقة أو تڪون خاطئة -من المصدر- في بعض جزئياتها..
ثم قال:
„ لدىٰ افراد مِن ابناء الغرب النظرة الإستعلائية.. انظر إلىٰ.. ” » .
فقاطعته قائلا :
„ أن ما تتحدث عنه „ رفيقي ” ملفات شائڪة.. ومسائل متوترة يقف المرء منا علىٰ صفيح شديد السخونة.. بل ملتهب سواء مِن الناحية السياسة.. أقصد سياسة الدولة العليا أو سياسة بمعنىٰ رعاية شؤون الأفراد والجانب الاقتصادي؛ وايضاً قضايا جوهرية عالقة دون حل يذڪر مِن الناحية الإجتماعية والثقافية ڪـ قضية « „ الإندماج في المجتمع الجديد ” » بل وحتىٰ مِن الناحية العقائدية وممارسة المسائل والشعائر الدينية وعلاقة الفرد بخالقه.. فهؤلاء جميعاً -مع مختلف مشاربهم ومسائل إيمانهم المتعددة وعقائدهم المتنوعة- لم يتفقوا علىٰ وصف أو نعت للآله! وإن تڪلموا عن إلهٍ.. وبالتالي لم تتمڪن ڪبار الدول بقدراتها المادية وعظماء الساسة بقدراتهم الفڪرية مِن حلها ” .
فأڪمل „ رفيقي ” دون أن ينتبه لمقولتي وڪأنه لم يسمعها أو لم يرد سماعها والتعليق عليها.. أو.. وهذا ڪان حسن ظني به.. أنه أرجأها لقادم حديثه..
فقال بهدوء المتمڪن مِن حديثه؛ المستيقن من صحة ڪلامه؛ وبـ برودة أعصاب المتحدث اللبق الذي يتعامل مع جمهور شتىٰ في محفل ضخم ڪبير مفجراً معضلة ڪلامية فڪرية سياسية :
„ « الدين لله والوطن للجميع(*) » إنها مقولة مخدرة ”
ثم تنفس بصوت مسموع وقال :
„ ثبت علىٰ مر التاريخ خطؤها.. علاقة الغرب بالشرق علاقة شائڪة سالت علىٰ طول طريقها غير المعبد وعلىٰ جانبي مسراها دماء الأبرياء.. ونُهبت ثروات وخيرات البلاد.. وقطعت رؤوس مَن لا يطيعهم مِن العباد ” .
فاستوقفته قائلا :
„ أفلام يوسف وهبي وتمثيله دور راسبوتين(**) ده ما ينفعش في الڪلام ده!..” .
فرفع يده معترضاً قائلا : „ إنتَ تقصد فيلم غرام وانتقام مع الحسناء مِن جبل لبنان اسمهان! ونتيجة رؤية هذه الأفلام يصير المشاهد لا يتمڪن في الليل أن ينام! ” .
فقلت له : „ بمنتهىٰ الصدق والأمانة ينبغي أن تڪون العلاقة بين طرفين غير متجانسين وأحيانا متعارضين.. ينبغي أن يحيط هذه العلاقة شيئ ما مِن الغموض يترتب عليه شئ ما من التوتر.. قد ترتفع وتيرته إلىٰ صدام ڪلامي مع علو صوت آحد الطرفين أو ڪلاهما؛ وتحدي مرفق بتشنجات مع استخدام القوة إذا لزم الأمر !.. ومع ڪل هذا يجب.. بل يتحتم استمرار الحياة بوتيرة هادئة عاقلة مرنة منسجمة مع متطلبات الحياة وملبية لـ حاجات البشر ممڪنة الإنسان من إشباع غرائزه بطريقة طبيعية وبڪيفية آدمية وبمستو راق عال.. ” .
ثم توقفتُ عن الڪلام تمهيدا لإحضار مثال جيد فخطر علىٰ بالي « „ علاقة الرجل بالمرأة ” » ..
فقلتُ : „ الرجل والمرأة...! ” .
فرد „ رفيقي ” مبتسماً ابتسامة عريضة :
„ جملتك الأولىٰ مانعة جامعة تدل علىٰ عمق في الفهم وتنم عن تحليل عميق! ومثالك جيد جداً ” .
فقلت له متلطفاً :
„ .. هذا مِن بعض فضلڪم وقليل مِن غزير علمڪم.. وڪما قالوا : « ومَن جاور السعيد سعد » و « مَن جاور الحداد انڪوىٰ بناره » و « مَن جاور في مسڪنه محل العطور تمسح بجداره » .. ” .
فبادرني بالقول « „ نعم.. نعم.. صحيح.. علاقة الرجل بالمرأة.. مثال جيد جداً.. ” » .
ولم يترڪني أڪمل قولي.. بل بادر بالقول :
„ .. وهذا يعود.. ” .
واعتدل مرة آخرىٰ في جلسته مشمراً عن ساعده الأيمن فقال:
„ هذا.. لأن أصل الترڪيبة الخَلقية عند ڪلاهما -الرجل والمرأة- تڪاد تڪون مختلفة تماما وإن ڪانا الإثنان بشر.. ومخلوقان مِن نفس المادة.. بل إن الناحية المزاجية والنفسية والمشاعرية مختلفة تماماً.. وتوجد مسائل تختلف تماما عند ڪلاهما.. مع الإعتراف بإنسانيتهما.. فالمرأةُ لديها رغبة في الأحتواء؛ انظر حين تنتقل مِن طفلةٍ بريئة إلىٰ أنثىٰ ڪاملة أعضاء التخصيب وجهازها لحمل جنين والولادة فيصيبها مغصا في منطقة الحوض فتنغلق علىٰ نفسها وتتجمع علىٰ مڪنونها.. ثم انظر بعد ذلك إلىٰ ڪيفية جلستها منڪمشة علىٰ نفسها.. ثم انظر إلىٰ وقت حملها؛ وهي تراقب في ڪل لحظة ڪبر حجم بطنها مع ما يعتريها من تقلبات جسدية وما يحويه رحمها مِن ڪائن حي جديد يتڪون وينمو داخل ڪيانها.. هذه التغيرات الإنقلابية والتحولية في ڪيان إنسان لا يشعر بها الرجل وإن تسبب مِن خلال معاشرته إياها في هذه النتيجة السعيدة للطرفين.. وهي فقط تتحمل عناء بوادر الحمل وزمنه وطوله فهو يستغرق تسعة شهور بنهارها ولياليها بل بثوانيها.. ثم ولادة طفلها من مخرج لا يڪاد أن يڪون اڪبر من آحدىٰ فتحتي أنفها.. ثم هي الأولىٰ التي تحضنه بين ذراعيها فترضعه حولين ڪاملين لمن اراد.. « „ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ.. ” » أما إذا نظرنا إلىٰ الرجل فعنده الرغبة في التعالي.. فهو لا يحوي الآخرين بل يريد أن يتملڪهم.. إما بفڪره وما يطرحه مِن اقوال أو افعال أو ممارسات أو حڪم وسيادة وقهر.. انظر ممن تتڪون جيوش العالم القديم أو الحديث أو فيلق الفرسان.. وانظر إلىٰ المرأة عندها الرغبة في العفو والتسامح وبداية صفحة جديدة دون إسالة دماء؛ وأما الرجل عنده الرغبة في الإنتقام والتعذيب؛ والمرأة لديها رغبة في الستر والتستر وخشية التعري أمام الغرباء وإن ڪانت من بائعات الهوىٰ والرجل له رغبة في الاظهار والاعلان.. والحقيقة.. القائمة تطول.. ” .
ثم أڪمل القول :
„ .. والحياة في الدنيا بُنيت علىٰ التضاد فيوجد حياة ويقابلها موت.. وتوجد أنثىٰ في جميع الڪائنات ويقابلها ذڪر في جميع المخلوقات.. ويوجد ليل ويقابله نهار.. ويوجد برد ويقابله حر ”
ثم توقف عن الحديث وقال منڪسرا ومتواضعاً :
„ .. وفي النهاية توجد نار وحجيم.. يقابلها جنة ونعيم.. وهذه ليست في الحياة الدنيا بل الحياة الأبدية ” .
فقلت له معلياً صوتي معترضاً أو موقفه عن الاسترسال في الحديث :
„ حيلك.. حيلك.. إنت تحدثت عن أمهات القضايا.. وڪبرىٰ الملفات.. وعظيم المسائل.. وليلتنا لا تحتمل فتح هذه المسائل والملفات والقضايا.. ثم الخلود إلىٰ نوم هادئ دون بحثها والوصول إلى نهايتها ومن ثم غلقها ” .
فقال مڪملاً :
„ والإشڪال أنك تجد بيت للغاضبات.. عند المسلمين وغير المسلمين.. والقانون النمساوي منذ حين يقف بجوار المرأة.. فيخرج الزوج أو مَن يعاشرها مِن بيت الزوجية في السڪن وتبقىٰ هي في منزلها إلىٰ أن يرىٰ قاضي المحاڪمة حيثيات القضية ومَن ملك البيت قبل الآخر أو مَن سڪن فيه قبل الآخر ومن جاء علىٰ الآخر ساڪناً مقيماً ” .
.. ثم سڪت ڪل منا وغلبنا النعاس.. فقلت له منبهاً :
„ نڪمل غدا.. وعليك خير.. تصبح يا „ رفيقي ” علىٰ خير.. بڪرة نڪمل.. الله يسامحك.. يظهر موش راح نعرف ننام الليلة نوماً هادئاً بعد طرح مثل هذه القضايا ” .
فقال مغمض العينين :
„ هذه آحدىٰ ضرائب الإغتراب.. وليست الضريبة الوحيدة ” .
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ
الملاحق التوضيحية :
(*) في عام 1919 ألقى الزعيم المِصري وأبرز قادة النضال ضد الاحتلال البريطاني سعد زغلول خطابا استخدم فيه عبارة "الدين لله والوطن للجميع". وسعد زغلول، بالإضافة لكونه قائدا لثورة 1919، كان رئيسا للوزراء ورئيسا لمجلس الأمة ووزيرا للتربية ووزيرا للعدل، كما كان من خريجي الأزهر وقد تتلمذ على يد جمال الدين الأفغاني ومفتي الديار المصرية الأسبق محمد عبده.. وذكر الكاتب المِصري وجيه وهبة أن الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي قد ألقى خطابا خلال حفل خيري وعرض مسرحي في القاهرة عام 1916 قال فيه أيضا إن "الدين لله والوطن للجميع". كان هذا الحفل تحت رعاية شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية حسب ما ذكرت صحيفة سركيس في أحد أعدادها في ذلك الزمن. وبالإضافة إلى مكانة الرافعي الأدبية الرفيعة فقد كان شخصا متدينا على المستوى الشخصي وتجلى تدينه في الكثير من أعماله الأدبية. وقوله هذه العبارة أمام شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية يدل على أنها كانت من العبارات المألوفة وغير المستهجنة قبل قرن من الآن. وكما ذكر المفكر الدكتور سمير قصير في كتابه "تاريخ بيروت" أن صحيفة "نفير سورية" التي أصدرها بطرس البستاني رائد الوطنية العربية السورية عام 1860 كان شعارها المطبوع في أعلى الصحيفة "الدين لله والوطن للجميع". ..
وقد استهجنها البعض من أقطاب الحركة الإسلامية حديثاً ..
.. كما أن هذه العبارة كانت شعار سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي عام 1925، والتي اجتمع عليها الثوار من مختلف المناطق السورية ومن جميع الطوائف.
وبغض النظر عن منشأ هذه العبارة ومن استخدمها أولا، فعلى ما يبدو كان هناك إجماع عليها في المنطقة العربية في القرن التاسع عشر خصوصا عند الوطنيين الرافضين للحكم العثماني حتى النصف الأول من القرن العشرين في أجواء النضال ضد الانتداب الأوروبي وصولا إلى فترة حكومات ما بعد الاستقلال التي وضعت أسس الدولة الوطنية. واستمر الوضع كذلك حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي عندما بدأت المرحلة التي يسميها الإسلاميون "الصحوة الإسلامية"، بينما يطلق عليها خصومهم مرحلة الردة الثقافية والحضارية، عندما برز جيل جديد من الإسلاميين يرفض عبارة الدين لله والوطن للجميع ويعتبرها دعوة لحبس الإسلام في المساجد.
في الأساس، معنى هذه العبارة الواضح والبسيط لا يترك سببا للاعتراض عليها. فهي تشير إلى أن أبناء الوطن الواحد متساوون أمام القانون، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات مهما كان دينهم أو طائفتهم. هذه القواعد وضعتها وسارت عليها الدول الحديثة بعد أن مرت بفترة طويلة من الحروب الدينية والصراعات بين أبناء الوطن الواحد.
كما أن العبارة صحيحة ولا غبار عليها، أخلاقيا أو إنسانيا. وهي تتماشى بشكل خاص مع مصالح المسلمين حول العالم قبل غيرهم، لأنها تعني أن لمسلمي الهند بعددهم الذي يفوق 200 مليون نفس حقوق الأغلبية الهندوسية ومن ضمنها حقهم في ممارسة دينهم وطقوسهم بحرية. وتشير أيضا إلى حقوق مسلمي الصين بأعدادهم التي قد تصل لمئة مليون أو أكثر، أو المسلمين في روسيا والتي تصل نسبتهم إلى 20 في المئة من عدد السكان، وبالإضافة إلى الجاليات المسلمة الكبيرة والسريعة النمو في دول أوروبا الغربية. أي أنه حين يتبنى المسلمون هذه العبارة يصبح بإمكانهم المطالبة بالحقوق الثقافية والسياسية والقانونية للمسلمين المنتشرين في كل دول العالم والذين يبلغ عددهم مئات الملايين.
لكن مع ذلك، فإن أغلب رجال الدين المسلمين هذه الأيام يرفضون ويهاجمون عبارة "الدين لله والوطن للجميع". فنقرأ مثلا في موقع منتديات "أتباع المرسلين": "عبارة الدين لله والوطن للجميع روج لها أعداء الإسلام من الكفار المنافقين ثم تبعهم بدون تفكير جهلاء المسلمين". ثم يهاجم هذا الموقع من يظن أنه مخترعها وهو سعد زغلول ويتهمه بأنه عميل للإنكليز! ونقرأ في موقع إسلامي آخر سمه "سنابل الخير": "لما عجز أعداء الإسلام عن محاربته بالسيف لجأوا إلى غزو عقول المسلمين ثقافيا ومن أخطر طروحاتهم الدعوة لتقديس الوطن واستبدال حدود الوطن بحدود الله، فتتلاشى عقيدة الحب بالله ورسوله بدعوى الوحدة الوطنية بين نسيج الأمة الواحدة، التي تجمع الفرق المختلفة تحت اسم القومية بدلا من الدين، واستبدال عقيدة الولاء والبراء بشعار المواطنة". . وفي الموقع الرسمي للشيخ ابن باز يقول: "إن كان معنى العبارة إنه يجوز أن يسكن الكافر مع المسلم في الشام والعراق ومصر وغيرها (ما عدا جزيرة العرب التي لا يجوز أن يسكن فيها الكفار) فهذا ممكن، وفي تلك المناطق إذا كان للمسلمين قوة أخذوا عليه جزية إذا كان يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا أما إذا لم يكن للمسلمين قوة فيسكن معهم بالأمان والموادعة". . حتى في موقع دار الإفتاء المصرية: "إن أراد قائل هذه العبارة فصل الدين عن النظام السلوكي والاجتماعي والتشريعي للدولة وحصره في علاقة الفرد بربه فهذا معنى مذموم يرفضه الشرع، والمذهب الذي يدعو إلى ذلك باطل، لأنه ينادي بالبعد عن فعل المأمورات وعن ترك المنهيات وهذا من أكبر الكبائر، لأن فيه تفلتا من ضوابط الإسلام وقواعده وسيؤدي إلى هدم بنيان هذا المجتمع وتماسكه، والإسلام الذي شرعه الله لم يدع جانبا من جوانب الحياة إلا وتعهده بالتشريع والتوجيه فهو شامل لكل نواحي الحياة مادية وروحية، فردية واجتماعية، وسنة رسول الله كانت في مختلف شؤون الحياة من اقتصاد وسياسة واجتماع وعبادة وغير ذلك من أمور الحياة، وأي مذهب يدعو إلى البعد عن كتاب الله وسنة نبينا محمد هو مذهب باطل لا يجوز لمسلم أن ينتمي إليه أو يشجعه أو يدعو إليه". .
وعندما قال البابا شنودة أثناء زيارة الشيخ شعراوي له :" الدين لله والوطن للجميع" .. رفضها علانية الشيخ شعراوي قائلا: "الدين والوطن لله والوطن الذي لا دين له لا يشرفنا العيش فيه"، رغم أن الشيخ شعراوي من المحسوبين على تيار الوسطية والاعتدال في الإسلام.
وقد كان من اللافت أن أحد أبرز الشعارات الذي رفعها عشرات الآلاف من المتظاهرين المصريين أمام مبنى الاتحادية نهاية عام 2012 للاحتجاج على حكم الإخوان المسلمين عبارة "الدين لله والوطن للجميع"؛ أي أن رفض هذه الحركات الإسلامية الجديدة لهذه العبارة لم ينجح في نزعها من الضمير والعقل الجمعي لأبناء هذه المنطقة.
لم يبق تقريبا على خريطة العالم الحالية من الدول التي تذكر في دستورها دينا للدولة سوى الدول العربية بالإضافة لإيران وباكستان وبنغلادش، أما بقية دول العالم فلا يوجد دين رسمي للدولة، لأنه حينها يتم التشكيك بحقوق المواطنة عند أصحاب القناعات والديانات الأخرى من أبناء البلد. والغريب أن هؤلاء الإسلاميين الذين يرفضون عبارة "الدين لله والوطن للجميع" يرون أن لهم الحق في بناء مساجد في باريس ولندن وبقية دول الغرب رغم أن الوجود الإسلامي هناك حديث عمره لا يتجاوز بضعة عقود ومكون بشكل رئيسي من المهاجرين والباحثين عن العمل لأسباب اقتصادية، ويعترض هؤلاء الإسلاميون في نفس الوقت على بناء أو ترميم كنائس في مدن الشرق الأوسط التي ولدت فيها المسيحية ومنها انتشرت لبقية العالم؛ وقد اعتنق سكان هذه المدن المسيحية قبل قرون.
ويرى الإسلاميون أن من حقهم ارتداء أزيائهم الخاصة في كل دول العالم، وفي المقابل، يريدون أن يحرموا الآخرين من حريتهم في اختيار طريقة عيشهم أو لبسهم في البلدان التي يشكلون فيها أغلبية. ويرفض هؤلاء الديانات والمعتقدات الأخرى ويكفرونها ويطلبون من العالم أن يحترم معتقداتهم. يقسمون العالم إلى معسكرين، معسكر الإيمان، أي هم، ومعسكر الكفر، أي كل الآخرين بما فيهم الأغلبية المطلقة من المسلمين الذين لا يشاطرونهم قناعاتهم.
كما أن رفض الإسلاميين لاعتبار أن الوطن لجميع أبنائه لا يقتصر على الديانات غير الإسلامية بل يشمل الطوائف الأخرى ضمن الدين الإسلامي نفسه. وعلى سبيل المثال، الاتهامات المتبادلة بين السنة والشيعة حول حرية العبادة أو إنشاء المراكز الدينية للطوائف المخالفة؛ إذ يدعي بعض سنة إيران تعرضهم للتمييز والتضييق على ممارساتهم الدينية في بلدهم، وكذلك يشتكي بعض الشيعة في دول الخليج من التمييز بحقهم، وفي الحالتين يضطر الكثيرون منهم لإخفاء معتقداتهم أو تغيير طائفتهم تجنبا للتمييز أو الاضطهاد. حرية الإنسان باختيار وممارسة معتقداته، لم تعد موضوعا قابلا للنقاش في عالم اليوم، بل هي من المسلمات التي تقرها القوانين الدولية والشرعة العالمية لحقوق الإنسان. ولم يعد من المقبول التمييز تجاه أبناء الوطن الواحد نتيجة الدين أو الطائفة، بل قد يترتب عليه مضاعفات سياسية وقانونية. ولن تفلح محاولة وقف التطور الإنساني الذي يعتبر أن الناس سواسية بغض النظر عن دينهم وطائفتهم ومعتقداتهم، ورغم أن خط التطور يسير بالإجمال للأمام ولكن أحيانا تتخلله بعض النكسات والتراجعات كما حدث في منطقة الشرق الأوسط خلال العقود الأربعة الماضية.. [ د. عماد بوظو ؛11 يونيو 2018؛ .alhurra] .
(**) مسرحية عن حياة راسبوتين (الراهب الروسي المشهور) و واقعة اغتياله، من اعداد وتأليف يوسف وهبي . وليس فيلم!.
(***) تتناثر الكثير من القصص حول كيفية نشأة ثقافة "بيوت القهوة" في النمسا، وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن هزيمة العثمانيين في حصار فيينا الثاني في عام 1683 كان نقطة انطلاق هذه الظاهرة، إذ ترك الجيش العثماني الذي كانت بلاده مشهورة بالقهوة وطرق تحضيرها في هذا الوقت، كميات كبيرة من حبوب القهوة بعد فراره، واسٌتخدمت هذه الحبوب في صناعة القهوة وتدشين الثقافة في الأراضي النمساوية. وفي عام 1685، نشر كبير المهندسين في الإمبراطورية النمساوية المجرية السابقة، كونتي مارسيلي، أطروحة "المشروبات الآسيوية" في فيينا، والتي تناولت طرق تحضير القهوة وأنواعها، ما دفع رجل الأعمال فرانز كولتشيتسكي لتأسيس أول مقهى كبير في المدينة تحت اسم "الزجاجة الزرقاء"..
ووفق "بوابة فيينا"، وهو موقع حكومي متخصص في تاريخ المدينة، فإن التجار الأرمن كان لهم الفضل في السنوات اللاحقة في تطوير صناعة القهوة، وتأسيس عدد من المقاهي في العاصمة النمساوية.
كما يتواجد في فيينا في الوقت الحالي العديد من المقاهي التاريخية مثل مقهى شوارزنبرج في رينغ شتراسا، أهم شارع في المدينة، ويعد هذا المقهى أهم ملتقى للفنانين والموسيقين في الـ100 عام الأخيرة.
وفي 1980، كان المقهى على شفا التحول لمعرض سيارات، لكن عمدة فيينا هيلموت زيلك، تدخل ومنع الخطوة، واستمر المقهى الشهير في تقديم قهوته الفريدة والشاي التقليدي حتى اليوم.
وفي قلب المدينة القديمة، يتواجد "كافيه سنترال" أشهر المقاهي التاريخية الذي جذب أعمدة السياسة والفن والأدب منذ افتتاحه لأول مرة عام 1876 . وفي هذا الإطار، قالت ستيفاني بربيك، مسؤولة التسويق والعلاقات العامة في الشركة المالكة لمقهى "كافيه سنترال"، لـ"العين الإخبارية": "كان المقهى نقطة تجمع رئيسية للطبقتين المثقفة والسياسية في الإمبراطورية النمساوية المجرية، وجذب أسماء كبيرة مثل ليون تروتسكي، أحد زعماء الثورة الروسية في 1917، والعالم سيغموند فرويد، والزعيم النازي أدولف هتلر، ورئيس يوغوسلافيا السابقة جوزيف تيتو". وتابعت: "يأتي مئات السياح كل يوم إلى المقهى يسألون أين كان يجلس فرويد، وأين كان يحتسي تروتسكي قهوته"، مضيفة "الإرث التاريخي للمكان جعله قبلة سياحية بخلاف طبيعته كنقطة تجمع ومقهى ومطعم". ومضت قائلة: "مشهد الطوابير التي تنتظر دورا للدخول أمام المقهى بات طبيعيا، ونعتز بالتاريخ السياسي والثقافي لكافيه سنترال". ومع مرور الوقت، تحول ارتياد بيوت القهوة في فيينا، إلى ثقافة مترسخة في المدينة، وعنصر أساسي في تكوين المواطن الفييناوي "نسبة إلى فيينا"، ونقطة جذب سياحي للآلاف من السياح سنويا. وفي 10 نوفمبر 2011، أدرجت اليونسكو ثقافة المقاهي في فيينا، في قائمتها للتراث الثقافي، باعتبارها "ممارسة اجتماعية نموذجية".
[(٢)] الجزء الثاني : « القصة بدأت »
﴿ رُوَايَّةُ : « „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ” ».﴾
[ 50 ] ضرائب الإغتراب
« وَرَقَةٌ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ »..
فيينا Vienne - لحظة إطلالها علىٰ الدانوب الأزرق
-*/*--
‏الأربعاء‏، 28‏ صفر‏، 1445هــ ~ 11 سبتمبر 2023م.


ج1 2022 >>

[ 49] خُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا

.. الحياةُ الدنيوية.. مدرسةٌ إلزامية؛ الحضور فيها يومي بغض النظر عن حالتنا الصحية وغض الطرف عن الحالة المزاجية أو جودة التحصيل وإحسانه أو سوءه.. ومع ذلك فـ أنها باهظة التڪاليف.. غالية المصروفات.. صعبة المدفوعات.. ننفقُ عليها مِن مخزون أعمارنا؛ وتستهلك منا سنين حياتنا؛ وتحرق شموع أيامنا.. فترقق عظامنا وتحني فتقوس ظهورنا وتسقط اسناننا فتؤلمنا.. وتبيض سواد شعورنا.. وبالتالي فهي مرهقة للأعصاب.. مستنفذة للطاقات سواء الذهنية أو البدنية.. مقلقة حينا ومريحة أحياناً.. تلزمنا علىٰ الدوام في فصولها التعليمية، فـ تبدء مراحلها الأولىٰ -دون رغبة منا أو اختيار- في رحم امرأة سعيدة بحملها.. فرحة بجنينها؛ أو تشقىٰ بجوار بعلها.. وتعيسة بمعاشرته.. يتحصل المرء منا علىٰ دروس خصوصية -قد لا يتخيرها بنفسه- قد تنجح في اختباراتها مرة أو ترسب في أمتحاناتها مرات.. ويفجع الإنسان في نهاية الصف الآخير بـ مصيبة تجرع ڪأس الموت حتىٰ الثُمالة والرحيل مع ترك ڪل ما نملك إلىٰ حياة آخرىٰ أبدية.. قد تُرحم فيصيبك في حياتك الجديدة الثواب الجزيل والعطاء الوفير الجميل لحسن أفعالك في الدنيا مع الآخرين وطيب أقوالك وجميل سِيرتك.. أو العقاب الوخيم والجزاء السقيم لقبيح تصرفاتك وسوء أفعالك ونتن أقوالك ” ..
.. بــ مقدمةٍ طويلةٍ نسبياً اقربُ ما تڪون أنها مزيج محوج ڪـ قهوة „ رفيقي ” المسائية؛ فهي بالقطع تختلف عن قهوة الصباح التي يتناولها في مقر مؤسسته العلمية وفق النمط النمساوي والطريقة الفيّيناوية؛ إذ هي تصنع بماء شديد السخونة لم يصل إلىٰ درجة الغليان صُب علىٰ مسحوق بودرة قهوة قد لا يدري مصدرها؛ وفنجان القهوة هذا بخلاف قهوة „ رفيقي ” المسائية فهو يصنعها علىٰ نار بوتاجاز هادئة للغاية تستغرق زمناً ڪما ڪان يفعل في مسڪنه في الحي العاشر أو المباني الحديثة حين دخلت الڪهرباء بدلا مِن الغاز.. وڪما عودته جدته لأبيه في أن تصنع فنجانَ قهوتها -عصراً- لها أو لـ ضيوفها من سيدات أرامل مثلها علىٰ ما يسمىٰ في زمنها بــ « „ سبرتايه ” » .. في « مَقْعَد » أسرته في شقة والده؛ بـ بيت مِلك جدته.. والمقعد هو الاسم القديم لـ صالون استقبال الضيوف حديثاً..
والطريف ڪما أخبرني „ رفيقي” أنه تناول فنجاناً من القهوة بتلك الطريقة في آحدىٰ مساجد الحي العاشر الفيّيناوي جلوسا علىٰ سجاد أخضر اللون.. فقد حَضَّرَ فنجانَ القهوة له مسلمٌ مِن أصل نمساوي؛ والذي ضيّفه وهو الشيخ « „ محمد إسماعيل” » هكذا غيّرَ اسمه وڪذلك اسلمت زوجته.. وسيؤتىٰ أجره مرتين؛ وڪذلك أجرها!
بدءَ „ رفيقي” أمسيتنا بـ مقدمةٍ طويلة نسيباً خُلطت فيها اقوال فلاسفة الأغريق وجهابذة الرومان مع مسحة من أقطاب الطريقة الصوفية.. وهو ليس من هؤلاء أو اؤلٰئك!.. هڪذا تحسست ڪلماته..
ولم أدرك تماماً مغزىٰ هذه المقدمة الطويلة من الوهلة الأولىٰ؛ ولعل هذه طريقته.. اعتاد عليها في حديثه.. وڪلماته هڪذا إثناء عرض فڪرة ما.. فـ يبدءُ بمقدمة تمهيدية تطول أحيانا ڪثيرة.. يقول عنها أنه يسعىٰ لتجذب أذن السامع لما سوف يقول بعد ذلك!.. ولعلها مدرسة الصحافة المِصرية القديمة قبل مجئ نصف كلمة أحمد رجب الصحفي المِصري المشهور ومن بعده الرسائل القصيرة عن طريق تويتر!
ثم بدء في عرض ما يريد قوله...
والغريب أحياناً أنه ينتقل بسرعة البرق إلىٰ تقديم مقدمة آخرىٰ جديدة.. قد يظن السامع أن لا تقارب بينهما ولا صلة !
ــــــ ــ
فــ ..
تساءل „ رفيقي ” في تلك الأمسية بعد أن أنتهينا مِن الدراسة اليومية.. واقترب موعد الذهاب إلىٰ النوم.. وڪأنه وجه السؤال إليَّ تحديداً..
فقال :
„ أليس الأصل في العلاقات الإنسانية السهولة واليسر.. !؟.. وعدم التعقيد سواء عند الحديث عن بداية الخليقة؛ وبدء الحياة البشرية البسيطة في ڪافة مظاهرها فوق ڪوڪب الأرض.. وهذا هو الملاحظ والمحسوس حتىٰ الأن نتيجة لما تحصلنا عليه من معلومات سابقة أقرب ما تڪون موثقة.. ڪما حدث مع آدم وزوجته.. حياةٌ بسيطةٌ للغاية وميسورة إلىٰ اقصىٰ حد وسهلة حتىٰ يتناول ما يشتهي فقط بمد اصابعه وليس ڪامل يده.. {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا}.. ” ..
فقلت: „ صدق الله العلي العظيم ”
ثم أڪمل مباشرةً دون توقف :
„ بخلاف اليوم.. مع التعقيدات الإدارية والتنفيذية.. وعدم القدرة علىٰ العيش دون التڪنولوجية الحديثة والتزام الحياة مع التقدم العلمي المذهل الهائل في ڪافة مناحِي الحياة!؟.. ” ..
ثم توقف عن الحديث هُنَيْهَةً.. توقف تماما حتىٰ عن الحرڪة لَحْظَةً قَصِيرَةً، يَسِيرَةً وڪأنه استدرك أمر هاماً وأردف قائلا:
„ .. ومع التعقيدات المنظورة الأن.. إلا أن الأصل في المعطيات تبين أمراً آخراً.. ألا وهو سهولة تسيير تلك العلاقات بين البشر ويسر إقامتها بين الإنسان وبين غيره.. إذ أن الحياة الإنسانية منذ بدايتها ومع بساطتها وسهولتها ويسرها وجد فيها تڪليف.. فــ منذ اللحظة الأولىٰ في الحياة ڪُلِف الإنسان بـ أفعل أو لا تفعل.. وهذا.. حتماً لصالح الإنسان نفسه.. ووجد منع من تناول شئ ما أو منع من القيام بفعل ما.. ووجد تحريم لشئٍ أو فعل في أضيق الحدود للحفاظ علىٰ علو مخلوقية آدمية الإنسان، بسبب تلك التسوية الآلهية والنفخة الرحمانية : {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } وهنا جاء مباشرةً أمر آلهي لمخلوق آخر.. خُلق مِن نور.. الملآئڪة.. يفعلون ما يأمرون ولا يعصون.. جاء الأمر بــ السجود تڪريما وتبجيلا وتعظيما لهذا الــ مخلوق الجديد الأول؛ والذي خلق مِن تراب {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِين}[الحِجر:29] فقاموا بالفعل حالاً دون نقاش أو استفسار وسبق اللفظ بـ فاء التعقيب {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون}[الحِجر:30] بيد أن صنف من المخلوقات.. غير مرئي وغيب للناس تمرد علىٰ أمر آلهي.. والآمر هو العليم الحڪيم: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِين}[الحِجر:31] ..” ..
فقلت: „ لعنة الله تعالىٰ علىٰ شياطين الإنس والجن ”
فأڪمل „ رفيقي” حديثه:
„ ڪما وجدت إباحة ڪافة الأشياء التي ينبغي أن يحتاجها الإنسان في حياته الأرضية؛ وتحليل أي حلال لڪل الأفعال التي يجب أن يقوم بها لصلاح بدنه وإنارة عقله وصفاء ذهنه ونقاء جسده وطهارة بدنه.. وإن ڪنا لا ندرك علة التحريم.. فقليل -مثلا- من الخمر لا يسڪر ومع ذلك جاء الحديث يقول ما ڪثيره يسڪر فقليله حرام.. فغابت علة التحريم فصار تحريم الخمر لذاتها ” ..
سڪت لحظة وأڪمل :
„ حتىٰ الملابس.. فلما تمنع المرأة -مثل أمي- من إبداء شعرها للأجانب وسُمحَ لي.. وأنا ابنها من إظهار شعري ”
ثم قال أڪمل فڪرتي:
„ جاء الأمر الآلهي حين جاء بصيغة العظمة : {وَقُلْنَا }.. ولم يقل { قلتُ }.. بل قال { قلنا؛ والمتحدث هو الواحد الأحد؛ الفرد الصمد؛ وهذه صيغة ملوك الأرض كما كان يقول ملك مِصر والسودان :" نحن " ملك مِصر والسودان } ..
{ قلنا : { يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} جاء التڪليف الأول.. ولعلها هي الوجبة الأولىٰ لآدم وزوجه.. وجاء مباشرة المنع والزجر والتحريم منذ اللحظة الأولىٰ في خلق آدم.. بقول الخالق: {وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِين} [البقرة:35] ” وڪان يصلح أن تڪون ڪل منتجات تلك الجنة(!) من مزروعات وفواكهة وكل ما فيها مباحة لساڪنها الأول.. والظاهر أنه أيضاً الأخير؛ فهي مخلوقة لهذا الأختبار.. ولهذا البلاء.. ولهذا الإمتحان.. ولڪن الترڪيبة الإنسانية الأصلية -وخالقها أعلم بها- تحتاج منذ بداية الخِلقة وبدء التڪوين حتىٰ إنتهاء حياة ڪل إنسان علىٰ الأرض بالموت إلىٰ هذا التنظيم الآلهي تحتاج النفس البشرية إلىٰ أوامر ونواهٍ -فهو الخالق العليم المحيط بڪنهها- وتحتاج النفس البشرية إلىٰ مَن يخبرها عن تحريم فعل ومنع من الاستحواذ علىٰ شئ وإباحة الإقدام علىٰ أشياء أو افعال وتحليل وحِل وسماح وتجاوز عن أشياء أو افعال وأن وقعت.. ويڪون هذا المانع أو الآمر أو الناهي أعلىٰ من هذا المخلوق البشري.. وإن لم يبلغنا علة التحريم وسبب المنع ولما هذا الزجر ” ..
اعتدل „ رفيقي ” في جلسته وڪأنه ڪان ينقل جبل عالٍ مِن مڪانه إلىٰ موضعٍ آخر.. وسحب رشفةً مِن بين شفتين تڪادا تڪونا مغلقتان مِن فنجان قهوته المحوجة علىٰ طريقة جدته لأبيه بصوت عالٍ مسموع -وهذه الڪيفية في تناول مشروباته ليست من عاداته أو طبيعة احتساءه فنجان قهوة أو ڪوب من الشاي أو الحليب الساخن..
وقال وڪأنه عثر علىٰ ڪنزٍ خُبأَ بين أحجار ڪريمة في ڪهف مهجور لم يصل إلىٰ حل مغزاه العلماء الڪبار الذين سبقوه فقال :
„ المقطع الأخير.. عجز تلك الآية في السورة التي يذكر فيها البقرة رقم ٣٥ يڪشف ويظهر أن هذه الجنة التي سڪنها آدم مع زوجته ينبغي أن تڪون جنة علىٰ الأرض تقع علىٰ ربوة عالية وليست جنة المأوئ(*) التي وعد بها المتقين(*)...
فقاطعته وقلت :
„ هذا رأي غير مقطوع به.. واحترس يا شيخ الشيوخ؛ ويا حضرة العالم بالله في تفسيرٍ مِن عقلك أو تأويل من مخك متعلق بــ القرآن الڪريم ! ” ..
فرد علىٰ الفور دون تلڪؤ : „ أنا قلت: « يڪشف.. يظهر.. ينبغي ” ..
ثم ارتفعت قامته وقال „ وهذا رأي.. قال به الدڪتور محمود عبده -رحمه الله رحمة واسعة وغفر له ووسع في قبره وهو مِن ڪبار علماء الأزهر الشريف.. فقد ڪان استاذا في العقيدة.. واستاذا في التفسير.. واستاذا في الحديث .. ”
ولم أڪن أدري العلاقة بين „ رفيقي” وبين فضيلة الدڪتور؛ ولم أجرؤ علىٰ سؤاله.. أين ومتىٰ سمع هذه المقالة مِن الدكتور المغفور له بإذن ربه..
ثم أكمل بالقول:
„ {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا} أي {إِبْلِيسَ} {عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]
ثم اعتدل مرة -لم أعدها- في مقعده وقال :
„ ويكتمل المعنىٰ منذ اللحظة الأولىٰ في الأختبار والأمتحان والبلاء بقوله تعالىٰ : {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ }.. وهذه هي قمة البلاغة القرآنية في التعبير عن تلك العلاقة بين إنسان -وإن ضعف- وبين إبليس اللعين -وإن قدر بوسوسةٍ علىٰ إنسان- بــ لفظ: {وَسْوَسَ}.. فتسقط دعاوي أهل الشعوذة والدجل في مسألة رڪوب الجني إنسية؛ أو دخول جنية داخل جسد إنسي.. ولنبحث عن المعنىٰ اللُغوي والشرعي في لفظة « „ وسوس ” » وهو الحديث الخفي وبعد حين فتتحول إلىٰ حالة نفسية منشأها منذ الصغر يتربىٰ عليها النشأ للتخويف أو إسڪاته عن البڪاء بقول العجائز " راح نجيبلك أمنا الغولة.. أو أبو رجل مسلوخة ".. فيبدء في ذهن الصغير أو الصغيرة تصور عن هذا المخلوق العجيب الأسطوري.. ويتحول إلىٰ رهاب نفسي قد تصحبه آلام جسدية عضوية ” ..
ثم توقف وقال:
„ ولڪي يتم استدراج الشخص لما يريده أهل الغواية يأتي مثال رائع في حديث الشيطان لآدم في نفس المقطع من الآية إذ اثبت القرآن القول : { قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ[١] الْخُلْدِ وَ[٢] مُلْكٍ لاَّ يَبْلَى}[طه:120] وخطاب الشيطان الرجيم -إبليس اللعين- وأهل الغواية لما يرغب فيه الإنسان ويحبه ويرضاه وإن لم يتفق مع فطرته أو عقله!
...
ثم قال ڪالمستوثق من إجابته : „ الحقيقة الثابتة أن خالق الإنسان الأول مَهَدَ لمخلوقه البشري الأول ڪافة اسباب المعيشة علىٰ الموضع الذي سوف يعيش عليه بڪل ما يحتاجه في حياته اليومية.. وإلا هلك هذا المخلوق.. ومات.. إما جوعاً أو عطشاً؛ فهيئ له المناخ الصالح لمعيشته مِن طعام وشراب.. حتىٰ هواء تنفسه.. نقاه له.. وهي الحاجات العضوية الأساسية الضرورية لمعيشة إنسان.. فالإنسان لديه معدة تحتاج إلىٰ أُكلاتٌ يُقمْنَ صلبَه(**).. ويملك أسنانا لمضغ تلك اللقيمات؛ ويريد قليلا مِن الماء؛ ويملك رئة تحتاج لهواء نقي؛ وحين يتعب يحتاج إلىٰ راحة وسويعات لينام؛ ومثل هذه الحاجات العضوية الأساسية يحتاجها الإنسان ليبقىٰ قادرا علىٰ مزاولة نشاطه اليومي الطبيعي.. ” ..
ثم تبصر أمامه وڪأنه يسعىٰ لاستڪشاف غيب لم نشاهده نحن بعد.. وقال:
„ حتىٰ مسميات الأشياء ولغة التخاطب وڪيفية التفاهم مع المخلوق المجاور له.. أقصد أمنا حواء أم البشرية.. فنطق القرآن يقول : {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}.. وهذا التعليم تم برحمة من الخالق قبل أن يباشر الإنسان الأول حياته الطبيعية وبجواره المرأة ~ السيدة الأولىٰ علىٰ وجه الأرض ” ..
ثم نظر في سماء الغرفة وقال :
„ حتىٰ التڪاليف.. أي أفعل ولا تفعل بُلغَ بها منذ اللحظة الأولىٰ من وجوده الحياتي.. وبالتالي علمها الإنسان الأول لنسله ” ..
ثم توقف تماما لبرهة من الزمن عن التنفس وليس فقط الڪلام وقال مڪملا:
„ أظن ان الشيخ محمد متولي الشعراوي بسط هذه المسألة بعاميته المِصرية في آحدىٰ خواطره بقوله :
« „ أن صانع أي آله بعد الإنتهاء مِن التفكير فيها ومعرفة فائدتها والقدرة على صناعتها ومن ثم تركيبتها وصلاحيتها للإنتفاع بها يعطي لها اسماً ثم يرفق بها ڪــتالوج التشغيل.. ڪــما أنه لو عطلت فتح فرع التصليح ” » فـ الشيخ قرب المثال بالتوضيح بآلة مصنوعة.. ڪالإنسان -تماماً- المخلوق لبديع السموات والأرض.. الخالق! ” ..
ثم أڪمل حديثه بالقول :
„ وحتىٰ الحاجات غير الضرورية ڪــ تملك المال والحصول علىٰ الجاه والسلطان والرئاسة والزعامة ومَيل الذڪر للأنثىٰ ورغبة الأنثىٰ لــ ذڪر عولجت معالجة رائعة وفقا لتعاليم السماء وتمت بشڪل يوافق فطرة الإنسان ومنافعه في آخر رسالة سماوية نزلت للناس.. ” ..
ثم اراد أن يبسط „ رفيقي” المسألة ڪلها فقال:
„ علاقات أي إنسان بمحيطه الذي يعيش فيه أو البيئة التي يتعامل معها تشمل ثلاث علاقات.. تحتاج إلى تنظيم ” »
ثم اعتدل في مقعده وقال: „ العلاقة الأولىٰ.. يا سيدي .. وما سيدك إلا أنا.. ينبغي أن تڪون.. علاقة الإنسان بنفسه.. يعني أنا مع أنا.. بمعنىٰ أنا مع نفسي ” ..
وڪأنه أعجبه هذا الشرح فوضع ساقاً فوق آخرىٰ وقال عالياً الأنف :
„ وعلاقة الإنسان بنفسه تشمل الأخلاق والمأڪولات والمطعومات والمشروبات والملبوسات ” ..
„ .. والعلاقة الثانية -يا ابني يا حبيبي.. وعليك تتعلم مني- يجب أن تڪون علاقتي أنا مع الآخرين.. سواء أڪان الآخر هذا إنسان مثلي.. يعني زَيّ زَيّهُ أو هذا الآخر بقية الموجودات مِن حولي.. العلاقة تڪون مع ڪل موجود بحسب تڪوينه الأصلي ومواد خلقته.. ولعل أسهل علاقة مع موجود مادي محسوس ملموس ڪالنباتات والخضروات والفواڪة وكافة أنواع الحيوانات والطيور والسماك والجمادات.. أما المخلوق غير مادي ڪـالملآئڪة والجن مثلا أو ڪل المغيبات وما لا تستطيع القدرات البشرية المملوكة للإنسان والحواس الآدمية الخمس أدراكه فنڪتفي بصحيح ما جاءنا من النصوص الشرعية والأدلة النقلية وما يمڪن أن نتوصل إليه بالأدلة العقلية؛ وهذا نادراً للغاية.. وإن ڪانت في مجال الغيبيات الأدلة العقلية لن تڪن مسعفة أو قادرة أو مفيدة علىٰ مجرد تصور ذلك الشئ الغيبي وهو غير محسوس وغير ملموس وغير مرأي وغير مسموع وغير مشموم؛ ولا تتمڪن من تذوقه ” ..
ثم أكمل :
„ وهي تشمل المعاملات والعقود والعقوبات.. لذا فكيف تقيم علاقة أو عقد أو تنزل عقوبة علىٰ مخلوق مغيب عنك غير مرأي لك ” ..
وڪأنه احتار في توصيف هذه العلاقة الثانية بيد أنه اسرع في الحديث وقال :
„ والثالثة ثابتة(***)”.. وهي علاقة المخلوق بخالقه ”
*-/* *-/*- *-/* ..
ثم أراد „ رفيقي” أن ينهي حديثه لنخلد إلىٰ النوم فقال :
„ .. والخلل جاء في ڪيفية الإشباع .. أي ڪيفية إشباع هذه العلاقات؛ أو ڪيفية إقامتها.. بمعنىٰ ڪيفية تنظم تلك العلاقات! سواء مع نفسك أو مع غيرك أو مع الخالق .. أو كما يسمونه الطبيعة أو قوى خفية غير منظورة !” ..
قالها وڪأنه توصل بمفرده إلىٰ الحقيقة الغائبة.. ثم أڪمل قائلاً:
„ الإشباع الخاطئ يشقىٰ الإنسان بسببه.. والإشباع الفاسد؛ حتىٰ في إشباع الحاجات العضوية الضرورية الأساسية ڪــ الأكل والشرب والتنفس والنوم!” ..
فقلت له مستغرباً :
„ الأڪل.. الطعام.. والشرب.. الشراب.. مفهومة.. لڪن ماذا تقصد بالتنفس والنوم.. أي إشباع خاطئ في التنفس والنوم.. يا أبو المعارف! ” ..
فتبسم إبتسامة عريضة وڪأنه يرغب في الاستماع لـ هذا الاستفهام مِن طرفي ڪي يسخن النقاش.. فقال :
„ لحكمةٍ يعلمها الخالق.. خلق لنا حيوان ڪــ الخنزير ومنعنا مِن تناول لحمه أو الإنتفاع بعظمه أو شحمه(****) ومنعنا من تناول الميتة ”(*****) ..
ثم توقف وأڪمل القول :
« „ شرب الدخان.. ثبت علمياً انه يسبب سرطانا في الرئة؛ ويقول البعض أنه يسبب سرطانا عند الرجال البالغين في البروستاتا وقد يكون سببا للموت؛ وتعاطي أنواع معينة من الأفيون أو الحشيش أو المخدرات بصفة عامة من خلال الشم أو سحب هواء النرجيلة والشيشة.. وهذا من حيث التنفس ".
أما مسألة النوم فقلب نظام الساعة البيولوجية للإنسان أو السهر لفترات طويلة فهو قلب لنظام طبيعي داخل التركيبة الإنسانية ".
ثم قال :
„ وڪذلك الحاجات غير ضرورية للإنسان؛ بمعنى أن لا يشرف المرء علىٰ الهلاك والموت إن لم يشبعها ڪــ التملك والإنجاب والميل الجنسي عند الذكر للانثىٰ فإن لم تشبع قد يصيب المرء منا حالة من الاضطراب النفسي فيشغل نفسه بأمر آخر ” ..
ومن هنا.. ثم توقف عن الحديث.. وبعد برهة أڪمل :
„ المناخ العام والبيئة التي يعيش فيها المرء قد تقدم أو تأخر قيمة إنسانية عن آخرى؛ فتجد في الغرب والشرق تقديس للميل الجنسي.. ثم يتحدث البعض عن الحرية الجنسية أو الفوضىٰ الجنسية؛ بل توجد منصات اقرب ما تڪون لإشاعة الزنا بين الناس ودون مقابل فهي ليس أوڪار دعارة بمفهومها الشائع بقدر ما هي منصات تواصل إجتماعي لتسهيل لقاء ذڪر بأنثىٰ أو ذڪر بذڪر أو أنثىٰ بأنثىٰ مع غمض العين من مؤسسات الرعاية الإجتماعية داخل الدولة وسڪوت المؤسسة الرعوية الدينية أو الحديث عنها بإستحياء ” » .
وقال: „ تواجد الإنسان السوي داخل مثل هذه التجمعات البشرية يصيبه غبارها إن لم يتلبس بأمر يضر بدنه أو عقله أو مروءته أو يفسد عليه دينه.. والإشڪال أن البلية قد عمت! ” .
توقف „ رفيقي” عن الحديث.. ولڪنني شعرت بمرارة تذوقتها من آخر جملة من حديثه وڪأن السامع يشعر أنه أرتڪب جريرة ما يريد أن يذڪر نفسه بأنها لا تصح؛ وڪأن لسان حاله يرغب أن يقول: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}[النساء:28] أو ينبهني إليها فلا اقوم بها.. علىٰ سياق {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِين}[الذاريات:55]
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـ
التزمتُ بوضع هوامش ومصادر ومراجع لتوضيح فكرة المتحدث عن رفيقه!
(*) عن سهل بن سعد-رضي الله عنه- قال: شهدتُ من النبي ﷺ مجلسًا وصف فيه الجنة، حتى انتهى، ثم قال في آخر حديثه: فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ثم قرأ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] إلى قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17]. [رواه البخاري ومسلم] . واذكر حديثا قدسيا رواه البخاري ومسلم ولفظه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وفي بعض رواياته: ولا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل.
(**) تسلسل الآيات : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى}[116] {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}[117] {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى}[118] {وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى}[119] {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى}[120] {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}[121] {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}[122] {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى}[سورة : طه: من الآيات 116 إلى 123] .
(***) « „ ما ملأ ابنُ آدمَ وعاءً شرًّا من بطنِه حسْبُ ابنِ آدمَ أُكلاتٌ يُقمْنَ صلبَه فإن كان لا محالةَ فثُلثٌ لطعامِه وثلثٌ لشرابِه وثلثٌ لنفسِه ” » . [رواه: المقدام بن معدي كرب؛ انظر : محمد جارالله الصعدي؛ في : النوافح العطرة؛ (323)؛ الحديث: حسن؛ التخريج: أخرجه الترمذي (2380)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6769)، وابن ماجه (3349)، وأحمد (17186) واللفظ له.
وأما بخصوص معنى الثلث لنفسه فــ : قد اكتشف الطب الحديث أن الجزء العلوي من المعدة هو عبارة عن جيب ممتلئ بالهواء يقع تحت الحجاب الحاجز، وكلما كان ممتلئاً بالهواء كانت حركة الحجاب الحاجز فوقه سهلة وكان التنفس ميسورًا، أما إذا امتلأ هذا الجيب بالطعام والشراب تعرقلت حركة الحجاب الحاجز وكان التنفس صعبًا، كما أن الصلب لا يستقيم تماما إلا إذا كانت حركة المعدة مستريحة، ولا يتم ذلك إذا أُتخِمت بالطعام. وقد أسلم طبيب أمريكي، فلما سُئل عن سبب إسلامه قال: أسلمت بسبب حديث واحد، وآية واحدة، قالوا له: ما الحديث؟ قال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: « „ بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فاعلا، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه ” » ، ثم قال معقّبا: هذه أصول الطب، ولو أن الناس نفذوها ما كاد يمرض أحد. ومن طريف ما يُذكر في ذلك أن حوارًا جرى بين طبيب ألماني وصحفي مسلم في إحدى مستشفيات ألمانيا، قال الطبيب الألماني للصحفي المسلم: „ ما سبب تأخر المسلمين عن الحضارة والنهضة؟ ”، فأجابه الصحفي المسلم - بالهوية فقط - : „ إن سبب تأخر المسلمين هو الإسلام ” ، فأمسكه الطبيب من يده، وذهب به إلى جدار قد عُلقت عليه لوحة، فقال له: „ اقرأ الكلمات المكتوبة على هذه اللوحة ” ، فإذا فيها الحديث الشريف الذي يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : « ” ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه... ” » .. وعند نِهاية الحديث قد كُتب، القائل: « محمد بن عبدالله » ، فقال الطبيب الألماني للصحفي المسلم: „ أتعرف مَن هذا؟ ” قال: „ نعم.. هذا نبينا ” ، فقال له: „ نبيكم يقول هذا الكلام العظيم، وأنت تقول: إن سبب تأخركم هو الإسلام!! ” .. وختم الألماني الحوار بقوله: „ للأسف إن جسد محمد عندكم، وتعاليمه عندنا ” .!! .
(****) عندما نقول باللهجة العامية المِصرية : "التالتة تابتة"، فنحن نقصد أن المحاولات الأولىٰ قد تخفق، ويكون التوفيق في الثالثة! وقد قيل أن هذا المثل الشعبي، مأخوذ عن حكاية انجليزية عسكرية للتحذير! ففى الحرب العالمية التانية صدر أمر عسكرى بأن من يشعل سيجارة لا يشعل للثاني ولا الثالث والسبب لأنه لو أشعل الأول.. للثانى..ثم الثالث أصبح مكانهم معروف للعدو وأصبح طلقات العدو موجهة لهم ولأصابت الطلقة الثالث وذلك فى حالة إصابة الهدف للأول فإن خفقت الطلقة الأول فمن المحتمل النجاح فى التصويب فى الطلقة الثانية فإن لم يحدث ذلك فمن المؤكد أنها ستنجح فى إصابة الثالث ومن هنا تصبح التالتة هو أصل الحكاية.. فللتعبير عن الأجسام يلزم على الأقل ثلاثة أبعاد، ولتحديد المكان يلزم على الأقل ثلاثة محاور. وللمادة ثلاثة أحوال: صلبة، أو: سائلة، أو:غازية. والذرة تتكون من جزئيات ثلاث. والكائنات الحية: حيوانات، أو: اسماك، أو: نباتات. والإنسان كائن ثلاثي: جسد، ونفس، وروح..
(*****) بعد نجاح أول عملية لزرع قلب خنزير في جسم إنسان، تُطرح العديد من الأسئلة العلمية والتقنية والأخلاقية. وكان الأمريكي ديفيد بينيت أول شخص يتلقىٰ قلب خنزير مُعدل وراثيا في ولاية ميريلاند الأمريكية بفضل جهود فريق يضُم الطبيب الباكستاني الأصل: محمد محيي الدين. لكنها ليست المرة الأولىٰ التي يتم فيها اللجوء للخنزير في عمليات زرع أعضاء للبشر. فما الذي يجعل الأطباء يُجمعون علىٰ هذا الحيوان المنبوذ في بعض الثقافات ؟ .
(******) {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ[1] وَالدَّمَ[2] وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ[3] وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ[4] فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم}[البقرة:173] وأكمل : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ[5] وَالْمَوْقُوذَةُ[6] وَالْمُتَرَدِّيَةُ[7] وَالنَّطِيحَةُ[8] وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ[9] وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ[10] وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم}[المائدة:3] .
[(٢)] الجزء الثاني : « القصة بدأت »
﴿ رُوَايَّةُ : « „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ” ».﴾
[ 49 ] خُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا
:" وَرَقَةُ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ".
فيينا -Vienne- لحظة إطلالها علىٰ الدانوب الأزرق.. وڪتابة بضع صفحات مِن ڪراسة إسڪندريات ٠٠٠
-*/*--
‏الخميس‏، 22‏ صفر‏، 1445هــ ~ 02 سبتمبر 2023م


ج1 2022 >>

[ 48 ] نِسُاءُ العَتَمَةِ

إذا ڪانت هناك امرأة في العتمة ترغب العيش خلف ظل ذڪر.. فبجوارها بالقطع رجل يمڪث مع أنثىٰ في الظلام.. وتلڪما البشران يرغبا العيش ڪـ خُفَاشة ووطواط يخافان فضح سرهما؛ فيڪرهان نور النهار فيختبأن خلف الغرف المظلمة ويخشان ضوء الحقيقة.. فلا يتذوقان طعم الطمأنينة أو السڪينة؛ وقد تتڪون بينهما مودة ورحمة بيد أن أفراد معادلة الخلق لا تڪتمل[(1)]!
ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ــــــــــ
أظنُ -والبعض من الظن إثم .. فما بالك بــ ڪثيره؛ إذا لم تتوفر المعلومات المطلوبة للحكم علىٰ الأشياء مع تحسين أو تقبيح الأفعال-.. أظن أن „ رفيقي ” ڪان له العديد من علاقات إعجاب أو حب عذري وتبادل رسائل مع فتيات مدارس زمن دراسته في الإعدادي أو المرحلة الثانوية .. واذڪر أنه روىٰ لي أن ڪان له ڪراسةً يڪتب فيها مقالات عن الحب يعطيها لفتاة سمت نفسها « „ نورا ” » وقد علم بعد ذلك أن اسمها الحقيقي « „ نفيسة ” » فاڪتفت بأول حرف من اسمها النفيس.. فڪان يأخذ الڪراسة التي قرأتها.. فيتبادلا ڪراستي الغرام.. والمؤلم -بتعبيره- أنه قد أنفصل عنها لأمر غريب يتأسف له أسفا مريراً لم يجرأ أن يخبرني به وشرد منه نظره حين يتذڪر هذه الواقعة والتي ڪنت أراها أنها مؤلمة عنده.. وأخذ يلوح بيده في الهواء إذ قال لي :
„ ألقيتُ بڪراسة غرامي الأول في بحر الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ لتحملها أمواج الميناء الشرقي فتسڪن إلىٰ الأبد بين ذرات الماء الصافي وحبات الرمال الناعمة ” ..
.. ومِن ثم جاء زمن الدراسة الجامعية في مدينة الثغر المطلة علىٰ البحيرة البيضاء المتوسطية.. ولعله ڪان عنده زمن « „ عربدة ” » دون أدنىٰ تفصيل منه ..
وهذه مفارقة عجيبة تحتاج لمزيد دراسة إجتماعية فڪيف في وسط متدين بالميلاد.. ومناخ إسلامي تقليدي والغالبية تحمل هوية إسلامية يحدث فيه مثل تلك : « „ العربدة ” » بتعبير „ رفيقي ” ..
ولعل الدڪتور هدىٰ زڪريا إخصائية في الدراسات الإجتماعية الميدانية وأستاذة علم الاجتماع السياسي والعسڪري بڪلية الآداب جامعة الزقازيق تشير أنه في الستينات من القرن الماضي ڪانت النساء يذهبن سافرات لحضور سهرة غناء لحفلة ڪوڪب الشرق السيدة أم ڪلثوم.. وبجوارهن على المقاعد.. رجال برابطة عنق وبدلة!..
ثم جاءت الصحوة الإسلامية حين هبت من منطقة الخليج العربي بمسحة سلفية.. وغيرت ثلة الأفراد وقلة من الناس وفق مفاهيم إسلامية صحيحة بيد أنها لم تتمڪن من تغيير مجتمع برمته.. ثم حدث ما حدث بعد ذلك ومعروف عند الجميع!
.. أعود لأتحدث عن مرحلة آخرىٰ من حياة „ رفيقي ” ..
فهو لم يتحدث معي علىٰ الإطلاق عن نساء أوروبا..
زمن المرحلة التمهيدية لدراسة التخصص في جامعة فيينا.. ويغلب علىٰ ظني أن تلك المرحلة التمهيدية لم يڪن لديه وقت بالفعل للتفڪير في نساء حسناوات أو امرأة ما شقراء.. أو « „ عربدة ” » في ليالي الأنس في فيينا أو ما بعد المرحلة التمهيدية.. لنيل درجة التخصص.. والطريف أنه يوجد محل لشد الشيشة تسمىٰ بـ : « ليالي الأنس » أو أنه „ رفيقي ” لم يصادف تلك المرأة التي تجذبه إليها.. فتشد انتباهه فتشرد ذهنه فيفڪر فيها غالب وقته..
مرحلتان -مرحلة تمهيدية ليتمكن من دراسته العليا ومرحلة الشهادة العالية الجامعية-.. فيهما غابت الأنثىٰ بڪاملها مِن خريطة حياته.. لا توجد نساء!
أزمنة مرت عليه غير واضحة المعالم بالفعل عنده.. أو عندي فهو لم يتحدث بالمرة عن تلك السنوات..
أو بالتحديد أين موضع المرأة في حياته؛ وبالتالي فلا يوجد في حديثه معي خبر عن امرأة ما..
لماذا أهملت -المرأة- هكذا في تلك السنوات الأُول من وجوده في النمسا وإثناء تحضيره الشهادة العليا للحصول علىٰ درجة الدكتوراه..
وإن ڪان البعض جهلا قالوا : « „ إذا اردت ان تحسن لغتك فصاحب فتاة ” » ..
وقد ثبت فشل بل خطأ تلك النظرية الهابطة.. فــ لغة جوته لا تؤخذ -بقواعدها وعلوها- إلا من ڪتاب أو استاذ!
والمهم عندي.. وبالفعل عنده.. أن وصية أمه له : « „ مَن زنىٰ في غربته أرجعه الله خائباً ” ». لعبت دورا أساسيا وجوهرياً في صيانته من : « „ عربدة ” » علىٰ النمط الفوضوي..
ولماذا تسطع في الأفق بأضواء باهتة نظرية : « „ الصورة النمطية ” » عن الآخر السيئة؛ والتي توارثها ڪلا الفريقين رغما عنهما.. العربي والغربي.. المسلم وغير المسلم..
بيد أنه لماذا الحديث هنا عن زنا.. لما لا يڪون الحديث عن زواج!!؟..
„ رفيقي ” يحدثني ذات مرة ومنذ زمن بعيد بأنه بعد أن انتهىٰ من مذاڪرته في بيت الطلبة بالحي التاسع الفييناوي وڪان آخر من ترك صالة المذاڪرة وبرفقته علىٰ درج العمارة طالب مثله من أهل اليمن تعارفا علىٰ بعضهما .. وفي أسفل العمارة تقابل الشاب اليمني مع فتاة حسناء بيضاء ولم تڪن شقراء.. فحياها وتأبطها وسار بها.. وفي اليوم التالي تقابلا ..
فسأله „ رفيقي ” : „ مَن تلك الفتاة التي ڪانت معك بالأمس.. ” وأكمل سريعاً : „ ياراجل إنت مسلم وبتصلي معانا تبقىٰ مين هذه الفتاة ” ..
فرد مسرعا بقوله : « „ إنها زوجتي .. ” »
ثم اردف : « „ أنا شيعي.. ويحق لي زواج المتعة ” »
فقال له : „ متعة مين يا مولانا ”
فشرح له ما هو زواج المتعة وفق المذهب الشيعي..
فقال „ رفيقي ” ضاحكاً : „ يا ليتني تشيعت! ”
والكلام الذي قالته له أمه اعتقدَا „ رفيقي ” لسنوات عدة أن النص هذا حديث شريف لسيد الخلق وحبيب الحق.. ذلك الرجل.و „ رفيقي ” يريد بالفعل -سلوڪا وفڪرا وعملا ونموذجاً- أن يتمثل أمامه بقدوةٍ رائعة ذات قيمة عالية علىٰ غرار نبي الإسلام وخاصةً أنه تربىٰ بين امرأتين -في طفولته المبڪرة وبداية زمن مراهقته- امرأتان أرادتا أن يڪون رجلا بالفعل.. وإن ڪنت اذكر أنه تساءل بدهشة :
„ لماذا مڪث نبي الإسلام في شبابه متمسڪا بزوجة واحدة.. سيدتنا خديجة بنت خويلد إلىٰ أن أنتقلت إلىٰ الرفيق الأعلىٰ ”
وتزداد فتعلو علىٰ ملامح وجهه علامات دهشة أڪبر حين يردد قول الرسول : « „ إني رزقت حبها(*)” »
يقف ڪثيرا عند تعبير : « „ رزقت ” » ..
ويتسأل أيضا بدهشة : „ أفي الحب رزق!؟ ” ..
والتعبير النبوي الرائع جاء في بيت عائشة أم المؤمنين.. والتي أعتبرها „ رفيقي ” استحقت بجدارة أن تصبح السيدة الأولى بالمصطلح الحديث العصري بجوار خاتم الأنبياء وإن ڪان بجوارها العديد من ڪبريات النساء وهي المسألة.. قصد „ رفيقي ” مسألة : « التعدد » فقد جال وصال وهاج وماج فيها مستشرقو الصوامع.. لما لديهم من تصور: « الصورة النمطية عن الآخر » تصور سابق ڪهنوتي عن تلك العلاقة بين الرجل والمرأة والتي رائدها ابن الآله والثابت عندهم أنه لم يتزوج والتصريح الواضح لبولس الرسول عن الزواج؛ وما وجد في زمنه من النظرة إلىٰ الزواج والبتولية؛ إذ تقرأ عندهم : « ڪان اليهود يرون الزواج أمرًا ضروريًا، ويحسبون مَن لا يريد الزواج قد ارتڪب جرمًا. بينما يتطلع ڪثير من الفلاسفة إلىٰ الزواج كــ شرٍ يجلب متاعب لا حصر لها، لڪنه شر لا بُد منه »
ڪما أنه لم يحدثني عن نساء دولة شقيقة لجمهورية النمسا في الاتحاد الأوروبي وقت الراحة الصيفية زمن الدراسة في ڪليته بــ : « الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ » في ڪل من فرنسا فاليونان وإيطاليا.. غير ابنة صاحب المطعم اليوناني؛ وهو لم يڪن يحسن لغة أهل اليونان.. فڪان مجرد إعجاب من طرف واحد وانتهىٰ الأمر بعودة سريعة لأرض الوطن الحبيب مِصر بــ تلغراف ڪتبت فيه ڪلمة واحد « عُدْ سريعاً » واللافت عندي أنه لم يتحدث معي ڪثيراً أو قليلاً عن تلك العلاقات العابرة ڪما أنه لم يتحدث أيضاً بالتفصيل المريح عن علاقات أثرت في ڪيانه إلا قليلاً..
وهو الذي ڪان معجباً بفتيات السينما الأمريڪية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية.. خاصة فتيات Thomas Sean Connery الاسكتلندي في أفلام بوند ؛ جيمس بوند
وڪنتُ قد طلبتُ منه أن يڪتبَ لي خطابات حب لفتاة ڪنتُ أميل إليها.. ثم توقف عن الڪتابة..
وڪانت وجهة نظره إنها سوف تلاحظ الفارق بين ما ڪُتبَ لها علىٰ الورق وبين حديثه هو معها وطريقة تفڪيره وڪيفية صياغته الڪلمات لها إذا تم لقاء بالفعل.. والنساء اذڪياء في ملاحظة الڪلمات والتعابير وترڪيبة الجمل..
وقد لاحظتُ أنه يتحدث معي -أحياناً- عن « „ " نِسُاءُ العَتَمَةِ " ” »(**) بعد أن تنتهي الحڪاية أو القصة أو تلك العلاقة العابرة؛
ولا أدري من أين أحضر „ رفيقي ” هذا المصطلح الغريب..
على ڪلٍ..
نحن قد استخدمنا العديد من المصطلحات لم يڪن يفهمها سوانا .. ومن عادته أنه لا يتڪلم عنهن لا إثناء بداية العلاقة أو في مراحلها المتعددة أو عند نهايتها فلا حديث..
أما إذا ڪانت من الماضي السحيق وإنتهت العلاقة بالفعل.. فهو يحلو له الحديث عنهن أو عنها ..
وڪأنه يريد تصحيح خطأ ما أرتڪبه.. فهو ليس من هواة العيش في ذڪريات أو اجترار(**) أحداث الماضي..
« „ " نِسُاءُ العَتَمَةِ " ” »(**) عند „ رفيقي ” بالقطع ڪُثر.. وأدلتي ڪثيرة فطريقة حديثه مع النساء.. خاصة إذا أعجبته امرأة أو ڪانت ضمن مواصفات الجمال لديه..
وعندي.. وبالتالي المقابل لــ نِسُاءِ العَتَمَةِ.. رجل العتمة.. أو رجل الظل.. إذ أن المسألة شخصين..
وبالقطع فقد ڪانت « „ فاطمة ” » أول تعلق له بفتاة وهو ما زال في بداية مرحلة الإعدادية أو السنة الأخيرة من الإبتدائية المِصرية علىٰ النظام القديم.. وبالقطع لم تڪن من بنات الجيران.. ولڪنها هبطت من سماء.. لا يعلم اي سماء تلك.. وجدها ذات صباح أمام عينه من شباك غرفته حين يطلع علىٰ العمارة الجديدة في الشارع الرئيسي.. وهو اعتبره رئيسي.. إذ منزل جدته لأبيه ڪان علىٰ « „ قمة ” » شارعين آحدها حارة تسمىٰ « „ حارة حلابو ” » لا يوجد بها سوىٰ أربع بيوت قديمة ملك أهالي..
وهي « „ فاطمة” » ڪانت تتميز عن باقي البنات التي تحيط به.. بما تضعه علىٰ رأسها .. رَبطة رأسها : « „ المنديل بــ أوية ” » وجلبابها المشجر أو الوردي الذي يحمل العديد من الزهور في نقشته الأصلية.. ولعله يتذڪر „ رفيقي” أن علامات حِنّة اليدين ڪانت تظهر علىٰ أطراف اناملها وڪان لا يظهر منها سوىٰ رأس بمنديلها ورقبة وشيئا ما من صدرها إذ ڪانت تطل من بلڪونة زوجة خالها.. وهي أيضا تسمىٰ بـ : « „ فاطمة ” » ويتذڪر „ رفيقي ” أنها ڪانت رائعة الجمال..
وقد قالوا قديما : « „ مرآة الحب خشب ” »
وهي بالقطع ڪما أخبرني في رحلة علىٰ الباخرة في إتجاة ميناء طرابلس الغرب.. فقد استغرقت الرحلة تقريباً يومين ..
و „ رفيقي” قليل الحديث عن نساءه.. فتياته.. ولعله وقت سفرنا معا في راحتنا الصيفية ڪان هناك الوقت الوفير للحديث عن أي شئ..
ومن الموضوعات المفضلة للذڪور الحديث عن الجنس الآخر.. الجنس اللطيف.. النساء بصفة عامة..
وعند الإناث الحديث عن الرجال..
و « „ فاطمة ” » تلك ڪما جاءت دون معرفة اسباب حضورها رحلت دون معرفة دواعي ذهابها..
وإن علم متأخرا أنها جاءت عروس لابن عمها ولم تڪن تصلح بالمرة أن تڪون آحدى نساءه.. فتياته..
ولڪنها مراهقة صبي أقترب من سن البلوغ أو ڪاد.. مَنْ سوف تتشڪل له شخصيته الرجولية بعد حين وهي جاءت مباشرة بعد أن اقتربت السيدة « „ فوزية ” » من الإنتهاء من آداء دورها في إعداد حبيس المرأتين أن يڪون رجلا وليس ملحق بحريم العائلة ..
ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ــــــ
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ــــــ
[(1)] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون}[الروم:21]
فمن الطبيعي ميل الذكر للأنثىٰ؛ وفطري أن تميل الأنثىٰ إلىٰ الذكر؛ وهذا ما يطلق عليه الإشباع السوي الطبيعي الفطري، وهناك إشباع خاطئ: [(زنا)] وآخر ثالث إشباع شاذ منحرف عن الفطرة بعيد عن الطبيعة السوية؛ وأدق تعبير تجده في الآية الكريمة التي تقول : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] .. وروعة التعبير وسمو درجته في الحديث عن العلاقة الفطرية السوية بين الذكر والأنثىٰ جاء بلفظ الحرث؛ أي موضع زراعة الولد في رحم المرأة.. فالمتحدث رب .. مالك .. خالق ثم في نفس الآية جاءت لفظة {أنى} وقُصد بها الكيفية والهيئة والطريقة والزمن ما دام في موضع زرع الولد: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُون} {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُون} [الواقعة: 63 و 64] إذا شاء وقدر الخالق أن يتم تكوين جنين في رحم! وتمام المعادلة زواج بشروط شرعية = فيترتب عليه سكينة+مودة +رحمة؛ إذ يروي لنا الإمام مسلم في صحيحه عن :" عَبْدِاللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ:" كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُمَا(يهودي ويهودية زنيا)، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَقِيهَا مِنَ الْحِجَارَةِ بِنَفْسِهِ. ". فوجد بينهما رحمة بما فعله معها وغابت السكينة والطمأنينة؛ أما رواية الإمام البخاري :" فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْني عَلَىٰ الْمَرْأَةِ يَقِيَهَا الْحِجَارَةَ. ".
[(*)] وتمام الحديث :" - ما غِرْتُ علَى نِسَاءِ النبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، إلَّا علَىٰ خَدِيجَةَ وإنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا. قالَتْ: وَكانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ، فيَقولُ: أَرْسِلُوا بهَا إلىٰ أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ قالَتْ: فأغْضَبْتُهُ يَوْمًا، فَقُلتُ: خَدِيجَةَ، فَقالَ: رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ إنِّي قدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا. وفي روايةٍ : بهذا الإسْنَادِ نَحْوَ حَديثِ أَبِي أُسَامَةَ إلى قِصَّةِ الشَّاةِ وَلَمْ يَذْكُرِ الزِّيَادَةَ بَعْدَهَا. روته: عائشة أم المؤمنين؛ انظر: مسلم؛ في: صحيحه؛ (2435)؛ وانظر: تخريجه: عند البخاري (3816) بنحوه.
[(**)] عتَمَةُ الليل: ظلامُ أوَّلِهِ بعد زوال نور الشَّفَق؛ وقت صلاة العشاء، وهو الثُّلثُ الأَوَّل من اللَّيل بعد غيبوبة الشَّفق الأحمر؛ أي ‏الظلمة وعدم اتضاح الرؤية‏. عتَّمَ الأنوارَ :أطفأها، أخفاها بشدَّة؛ عتَّم على الخبر: أخفاه، تجاهله؛ عتَم اللَّيلُ :أظلم، مرَّ منه جزء.
(***) اجْتِرَارٌ : اِجْتَرَّ لَمْ تَتَوَقَّف البَقَرَةُ عَنِ الاجْتِرَارِ: إعَادَةُ مَا فِي بَطْنِهَا وَمَضْغُهِ مَرَّةً ثَانِيَةً مَا جَاءَ فِي كَلاَمِهِ مُجَرَّدُ اجْتِرَارٍ: إِعَادَةُ الكَلاَمِ نَفْسِهِ فِي كلِّ مَرَّةٍ . اجترار: تكراريّة، إعادة دون الإتيان بجديد "اجتراريّة العرب لتراثهم أنضبت معين معرفتهم، اجتراريّة الألم: إعادته إلى الذهن باستمرار وتكرار عذاب الشعور به، اجتراريّة الكلام: إعادته وترديده دون جديد". .
[(٢)] الجزء الثاني : « القصة بدأت »
﴿ رُوَايَّةُ : « „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ” ».﴾
[ 48 ] نِسُاءُ العَتَمَةِ
:" وَرَقَةُ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ".
فيينا Vienne - لحظة إطلالها علىٰ الدانوب الأزرق
بضع صفحات من كراسة إسكندريات ٠٠٠
-*/*--

(د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِنْ الْإِسْڪَنْدَرِيَّةِ)
‏الجمعة‏، 09‏ صفر‏، 1445هــ ~ 21 أغسطس 2023م


ج1 2022 >>

47 حالة زنا

« „ ٢ ” » .. الجزء الثاني
من ﴿ رُوَايَّةِ : « „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ” ».﴾
وَرَقَةُ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ
ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ

دخل - „ رفيقي ” - مغاضباً إلىٰ قاعة جلوسنا دون أن يُلقي تحيةَ المساء علىٰ مسمعي .. أو علىٰ أذان الحضور .. وليس مِن عادته أن يأتي مِن الخارج هڪذا بتلك الحالة الغريبة عنه والشاذة في سلوڪه .. والتي تڪاد لا تڪون مِن طباعه أو عاداته .. فهو دائماً بشوش؛ مرح .. يحي الغرباء .. فما بالك بالأقرباء والأصدقاء .. وحين تڪون „ الغزالة ” رايقة يحي بتحية ولاد البلد الجدعان .. مثل قوله „ يا مِسا الفُل .. ” ؛ ويزيد مِن عنده فيضع باقة زهور وورود ورياحين وبنفسج ضمن ڪلمات تحيته .. فــ يڪمل ڪأن خدوده متوردة ويفوح من تحت هندامه ومن عِطْفه الأيمن فالأيسر؛ وهو منه من لدُن رأسه إلىٰ ورڪه..يفوح منه عطره الخاص والذي يسمِه : « عطر الشباب والرجولة »؛ فيقول : „ يا مِسا الفُل .. والياسمين والورد البلدي المفتح على عيون الحلوين ” .. وأحياناً ڪثيرة اسمعه بلهجة عامية ڪأنه يقول : „ يا مِساك الجمال ” ؛ .. .. وأظن أنه يعني : « ميثاق عبدالناصر »(*) ..
وفي زحمة هذا المشهد الذي لم تبدَ ملامحه بعد في تلك الليلة .. ڪأني لاحظت إغروراق عينيه بالدموع! .. وهذه .. حالةٌ نادرة لم أرها منذ حين مِن الزمان بل لم أرها معه أبداً؛ إذ لم تحدث أمامي فتجمعنا حادثة مؤلمة تلزمه الحزن فـ ترغمه علىٰ النحيب أو ترهق رجولته فيبدء في البڪاء .. وعلىٰ ڪل حال فهو إنسان .. يملك مشاعر وتعلوه أحاسيس..
.. نعم في تلك الليلة : « „ اغْرَوْرَقَتْ عيناه بالدُّموع ” » ؛ فـ امتلأتا دمعاً .. شعرتُ ڪأنه دمعاً ساخناً حاراً، ولڪنهما لم تَفِيضا دمعا بَعد ..
.. وهو الذي تربىٰ علىٰ أن يڪون رجلاً .. وڪما قالت له مَن وَلَدَتْهُ فأرضعته .. أمه؛ ومن قَبل مربيته الأولىٰ والمؤثرة في ڪيان شخصيته .. جدته لأبيه.. فقالتا بحزم : « الراجل ما يبڪيش » ؛
ولڪنه إنسان بالقطع يحمل ڪتلة أحاسيس بشر ومجموعة عواطف إنسان وحزمة مشاعر آدمية!
وبهدوء تام دون أن يتڪلم .. وضع : « ودن » فنجان قهوته في يده ولاحظتُ أن أصابعه تهتز .. أو أن أنامله بالفعل ترتعش!. أو ڪأن ڪيانه يرتجف!
سألته بَعد قليل .. بعد أن هدأت جورحه؛ وارتشف رشفة من قهوته يمررها بين شفتيه ويتحسسها بلسانه فيتذوقها بڪامل فمه .. ومر من الوقت بعضه .. وڪأنه دهر من الزمان ..
فقلت بصوت خفيض: „ آيه مالك .. فيه آيه ” ؛
.. لم يلتفت إليَّ .. بل نظر في فنجان قهوته ڪأنه يستطلع الغيب المختفي بين مسحوق القهوة وحبات السڪر الذائب .. أو يريد استقراء الطالع ڪأن الفنجان بما يحويه احتوىٰ غيب المستقبل!
.. ولا أدري أي غيب يرغب أن يقرأه في فنجان قهوة محوجة صنعه قهوجي لا يحسن قرأت مقال أو عمود في جريدة أو فنجان بسڪر زيادة صنعته له آحدىٰ سيدات بيته.. أو أي طالع أو نازل يسعىٰ إلىٰ استقراءه .. ولڪنها تخاريف عواجيز أو عالم ناس فاضية أو وسيلة لتهدئة نفس مهمومة مڪلومة تبحث عن راحة زائفة .. وڪما يقولون : « الغريق بيتعلق في قشة » ؛
توقفنا معاً عن الحديث أو حتىٰ مجرد نظر إحدنا إلىٰ الآخر ..
ثم ڪأنه هدأ بالفعل .. وتمالك قواها العاقلة ليتمڪن من ترتيب افڪاره فيتحدث عن فڪرة ڪانت غامضة بين خلايا مخه استحوذت عليه ڪله .. فقال بصوت يڪاد يسمع بالعافية : „ اسمع يا سيدي .. آخر الأخبار والتي احزنتني ڪثيرا ” ؛
فقلت مسرعاً: „ خير .. آيه يا بني مالم فيه آيه .. خير ما عندك يا صاحبي ” ؛
فقال وهو يعتصره الألم : „ غَرق!.” ؛ وسڪت ..
ثم تاه مني في غيبوبة مع أنه يدرك ما حوله وڪأنها مفتعلة وممسرحة علىٰ طريقة عميد المسرح المِصري يوسف بيك وهبي؛ وهو قد درس في فرنسا ! .. وعيناه منفتحتان علىٰ فراغ مجهول عندي ولڪنه بالتاڪيد معلوم عنده..
ولم يذڪر لي مَن الذي غرق!؟
فسألته : „ مين إللي غرق ”.. وسڪتُ ڪي ألاحظ رد فعله !
ثم قلت: „ هو حد مِن معارفنا .. ولا حد قريب لك من العائلة ! ” ؛
فقال بهدوء .. وڪأنه استطاع أن يعيد لنفسه توازنها: „ كوجو ” ؛
ورددها مرة ثانية : „ إنه كوجو ” ؛
فسألته بسذاجة الأطفال وأنا انظر إلىٰ عينيه وقد جفت منها الدموع !
وقلت له : „ كوجو ” ..
وابتسمتُ بسمة بلهاء : „ كوجو .. يبقىٰ مين ده ” ..
ثم أردفتُ : „ ده يبقىٰ صاحبنا إللي ڪان معانا في فرنسا .. بس أظن أنه ڪان اسمه بابلو.. هو الغريق ده -الله يرحمه- حد إنتَ تعرفه وأنا معرفهوش! ” ؛
فـ رد مظهرا توجعاً : „ يا بني آدم .. كوجو ده يبقىٰ يخت !” ؛
فقلت له مباشرة بصوت فيه نبرة ألم: „ اسم الله عليك يا أخويا .. يخت .. الغرقان يخت .. يخت مين يا أبو بخت قليل .. هو فيه بخوت .. أقصد يخوت بتغرق اليومين دول .. وامتىٰ حصلت الفاجعة المهببة .. المؤلمة ديه ” ؛
فرد بجدية : „ بلاش تريقه وحياة أبوك ” .
فرديت عليه : „ ابويا مات من زمان .. الله يرحمه ” ؛
فاعتدل في مقعده وصوب نظره إليَّ بحدة وقال : „ يوم الخميس 3 أغسطس .. السنة دي .. 2023؛ غرق اليخت كوجو الذي شهد إثناء العلاقة العاطفية للأميرة ويلز ديانا الإنجليزية ورجل الأعمال دودي الإسكندراني بالريفيرا الفرنسية.. شهد آخر رحلة منهما ومعا ” ؛
فقلت له مقاطعاً : „ مين يا أخويا .. دي طبلت جامد أوي الليلة دي .. سمعني وحياة راس جدك تاني .. وحياة روح أبوك أطربني ڪمان !ـ ” ؛
فقال لي بصوت مرتفع قليلاً عما ڪان من الحديث من قبل .. وهنا أدرڪت أنه عاد لطبيعته في التفڪير والڪلام .. فقال : „ اليخت كوجو .. ده .. شهد اصطحاب دودي الفايد في آخر رحلة للأميرة ديانا في فرنسا في عام 1997 وقت إن كانا مخطوبين وعلىٰ وشك إعلان موعد زواجهما ” ؛
فقلت له مستغرباً : „ يا عم ده إنت عايم في مية البطيخ .. ده علىٰ الأقل مر ربع قرن علىٰ موتهما ” ؛
فقاطعني مزمجراً : „ لأ .. لأ .. ما تقلش ڪده .. صحح معلوماتك يا أستاذ .. ده إنت إللي لسه عايش في مية المخلل .. دي ڪانت مؤامرة لـ قتلهما وعلىٰ ايدي رجال المخابرات البريطانية MI6 .. جهاز الاستخبارات البريطاني أو ((SIS الـ إس آي إس Secret Intelligence Service ، وعُرف بصورة عامة باسم إم آي 6، MI6” ؛
فردتُ مسرعاً: „ يا عم الباشا ده ڪلام أبو الدودي .. الفايد الڪبير ڪما جاء في تصريحات له لوڪالات الأنباء.. وبعدين كَفَى عَلَى الْخبَرْ مَاجُورْ ” ؛
فقاطعني موضحاً : „ ده ڪان تدبير علىٰ مستوىٰ عالي أوي .. وڪما يقولون توجد -أحياناً- الجريمة المتكاملة الآركان ! ” ؛
فقلت له علىٰ الفور: „ على ڪلٍ .. هناك العديد من حالات القتل الظاهر زي عين الشمس .. زي .. مثلا ڪيندي بتاع مارلين مونرو .. وعلىٰ عينك يا تاجر ! حتى ٰالأن ولا يعرف مَن القاتل أو جهته مع وجود جثة القتيل !” ؛
ثم وجدته تراجع قليلا في جلسته إلىٰ الخلف بظهره وأخذ رشفة من فنجان قهوته ثم قال: „ اليخت كوجو استمتعت به الأميرة ديانا وخطيبها ” ؛
فأوقفته علىٰ أن يڪمل بقولي : „ صديقها دودي فايد ” ؛
فلم يعلق وڪأنه لم يسمع ما اقوله أو بلع الڪلام .
فقلت له :« „ .التلاعب بالألفاظ يغير المعنىٰ بالڪامل .. فنقبل بالغلط وهو حرام .. ونقول عيب وهو معصية .. والحرام والمعصية عليهما عقوبة وحد أو تعزير! ” » ..
فـ أڪمل وڪأنه يقرأ من نشرة أخبار : „ في إجازتهما الصيفية الأخيرة في جنوب فرنسا، وعلىٰ الريفيرا .. بعد أن شُوهدت ديانا التي ڪانت تبلغ من العمر آنذاك 36 عاماً، وهي تتبختر علىٰ سطح اليخت، تستمتع بشمس البحر الأبيض المتوسط علىٰ الضفة الشمالية للبحيرة المتوسطية.. غرق في قاع البحر. اختفىٰ كوجو” ؛
ثم توقف قليلا.. ووقوفه عن الحديث يعني إما أنه يريد ترتيب افڪاره أو سيبدء في نقطة جديدة تحتاج لتجميع قواه العقلية والنفسية.
فقال : „ سأقص عليك القصة من أولها : إنتَ عارف وكالة التسويق Inkpact وعالمة الرسم والمعالجة النفسية "إيما باش" .. دي قامت بتحليل الخطابات القوية من الأميرة ديانا لمعرفة الرسائل المخفية وراء ڪلماتها ” ..
ثم اعتدل في جلسته وأكمل : قالت إيما: „ اشتهرت الأميرة الراحلة ديانا بكونها كاتبة رسائل غزيرة الإنتاج وكانت تخصص وقتًا كل يوم لكتابة رسائل شكر ” ؛ وهذا بحسب ما نشرت صحيفة “ديلي اكسبريس” البريطانية.
وتكمل إيما : „ في رسالة الشكر المكتوبة قبل وقت قصير من وفاتها، نرى أسلوبها الشخصي المميز والعاطفي ” ، فتوضح "باش" : „ إن ميل خط اليد عمودي، ويكشف عن جانب عملي أكثر لشخصيتها وقدرتها المدروسة على التخطيط ” .
وأضافت: „ تُظهر كتاباتها العديدة أنها كانت شخصية أمومية وحساسة للغاية لمحنة الآخرين، ولكن كتاباتها تظهر أيضًا : « حاجتها إلى الحب » ؛ و « الرغبة في قبولها من طرف من حولها » ” ؛ فوفقًا لأحد خبراء الكتابة اليدوية: „ أظهر خط ديانا في الرسائل: « حاجتها إلى الحب والقبول » ” ؛ فقد كانت الأميرة ديانا تكتب العديد من الرسائل المكتوبة بخط اليد خلال فترة وجودها كزوجة في العائلة المالكة، خاصة وأن الإنترنت كان شيئًا جديدًا نسبيًا في ذلك الوقت.. توقف عن الحديث ثم أكمل : وفي عائلة الفايد جرى الترحيب بها فقد قبلت دعوة كان قد قدمها لها محمد الفايد واسرته في مسكنه الساحلي الفخم في سان تروبيه بجنوب فرنسا في أوائل يوليو عام وفاتها .. فهو آمن، ومحمي، كما وعد بأنها ستستمتع كثيرا. هذا فيما وصفه اندرونيل رئيس تحرير صنداي تايمز السابق وصديق أسرة الفايد بـ«حضن الاسرة العربية الممتدة الدافئ». بيد أن اجهزة الاعلام تابعت وصول دودي الفايد. فقد استدعاه والده من باريس وطلب منه الانضمام اليهم .. وقال حسن ياسين خال دودي «إن أي أب يود ان يرى ابنه يعاشر أفضل الناس، وبالتالي كان يفعل كل ما يستطيع لتحقيق ذلك الأمر».
ثم تأتي : « القبلة » الشهيرة :
وهنا رأيت „ رفيقي ” .وضع رجلا فوق آخرى وكأنه أمسك بزمام الأمور وقال : „ فقد جرى تخصيص كابينتين منفصلتين لهما في البداية .. لكن خلال هذه العطلة في اواخر اغسطس .. التقطت دسة مصور .. صور «القبلة» الشهيرة من بُعد.. وقد التقطها مصور صحفي لديه اتصالات جيدة، حيث اخذ صورة لدودي وديانا وهما في حالة عناق في المياه الضحلة في منطقة ايسولا بيانا في جنوب كورسيكا.. وقد التقطت الصور قبل خمسة ايام من الموعد المقرر لعقد قران دودي على فيشر. وحصل المصور ماريو برينا وشريكه جيسون فريزر على مبلغ كبير مكون من ستة ارقام مقابل تلك الصور. فهو قد تمكن من لفت انظار العالم إلى أن الاميرة تمر بعلاقة رومانسية في ذلك الصيف.. وفجأة اختفت القصص الاولى والتقارير التي تقول ان دودي شخص «حساس ونبيل وعطوف»، وظهرت بدلا منها اخرى بالكاد استطاعت اخفاء سمتها العنصرية، حيث بدأت تتحدث عن علاقاته الغرامية السابقة وادمانه على المخدرات. وعندما ظهرت خطيبته كيلي فيشر وهي تبكي أمام الكاميرات معلنة عن انتهاء الخطوبة، تحول دودي من «السيد الكامل» المهذب الى «زير النساء المِصري» الذي ينتقل بين أسرّة العشيقات ” ..
أردف „ رفيقي ” وكأنه محلل نفسي بقوله : „ وهذا سيناريو توقعت ديانا حدوثه منذ فترة طويلة وكانت تخشى حدوثه. فقد قالت ذات مرة «من يود ان يدخل في علاقة معي؟ فأي شخص يفعل ذلك عليه قبول تدخل الصحافة في خصوصياته». الا انه في مساء اليوم الذي نشرت فيه قصة رحلتها البحرية الرومانسية في الصحف تناولت ديانا طعام العشاء في شقة دودي في منطقة بارك لين في وسط لندن. وذلك في الليلة السابعة لموعد عقد قرانه على كيلي فيشر وكان حوالي خمسين مصورا في انتظارهما في الخارج. ولأول مرة بدت الاميرة غير مهتمة بالضجة المثارة حولها ” ؛
ثم أكمل روايته : „ وقد لاحظ الاصدقاء، وافراد الاسرة جدية العلاقة بين دودي وديانا ” ؛ وقال حسن ياسين خال دودي الذي يحبه، ويعرف جوانبه السلبية انه اتصل به هاتفيا مرتين خلال تلك الرحلة البحرية.. وقال له مازحا ان قصر باكنغهام اتصل به وحذره من انه اذا ما تزوج دودي ديانا فإنه قد يرغم على الزواج بالملكة الام.. غير ان ياسين الذي ظل يراقب تطور حياة دودي احس بوجود بعض الخطر اذ قال «لقد كان سعيدا للغاية، وادركت انه عثر على شخص كان يفتقده، فلأول مرة في حياته كان متفتحا».. وفي وقت لاحق انذر ياسين ابن اخته دودي بطريقة غير مباشرة بأن يأخذ «هذه الفتاة الذهبية» مأخذا جادا.. وان عليه ان يسعى الى الاستقرار.. ورد عليه دودي: «انني سأفعل ذلك» وكان دودي قد ذكر الشيء نفسه عند التقائه الوسيط ريتا روجرز في بيتها في ديريشاير.. وكانت ريتا قد قرأت له حظه عبر هاتف يعمل عبر الاقمار الصناعية بينما كان في الرحلة البحرية مع ديانا على متن اليخت، حيث قالت له انه لن تكون له صديقة اخرى بعد الآن.. ورد عليها دودي «اعرف ذلك لأنني وجدتها».. وبدت ديانا ايضا واقعة في حبه، فقد كان دودي يتميز بالانفتاح والصراحة وقد رعاها بحبه، وعطفه، وحمايته وهي صفات كانت تبحث عنها في الرجال طوال حياتها.. وديانا التي كانت في حاجة الى كل ذلك وتوقها الى الحب اصبحت الآن مع شخص لديه كل الوقت لها.. ومن عدة جوانب فإن تلك تعتبر أول علاقة لها كامرأة راشدة.. فعندما الغيت رحلة ديانا مع صديقتها الاميركية لانا ماركس الى ميلانو بسبب وفاة والد لانا، وجدت الاميرة نفسها في حيرة، لكنها بدلا من البقاء في قصر كينزينغتون قبلت دعوة اخرى للانضمام الى دودي الفايد على متن يخت والده، حيث وصلت إلى نيس في 21 اغسطس.. وقد كانت تلك اياما سعيدة استمتعا فيها بالشمس والتنقل باليخت من ميناء الى آخر بعيدين عن كل العالم معزولين داخل اليخت ” ..
توقف „ رفيقي ” لحيظة وكأنه ينظر في اتجاه بعينه ثم قال : „ وعندما اشترى لها دودي خاتما من محل البيرتو ريبوسي في موناكو دارت تكهنات بأنهما ينويان الزواج.. وقد زاد من التكهنات اسم نوعية الخاتم وهو من مجموعة «قولي لي نعم» ” ..
نزوة صيف:
وكأنه عاد إلى رشده وقال :« „ وصف بعض اصدقاء ديانا حبها لدودي بأنه «نزوة صيف»، مذكرين الاثنين بأنهما عرفا بعضهما قبل ستة اسابيع فقط، وانهما امضيا 25 يوما فقط وحدهما.. وعندما بدأت ديانا تنظر في مخططات المهندس المعماري لمسكن الممثلة جولي اندروز في ماليبو زادت التكهنات.. فهي اختارت حتى غرف ولديها.. وحقيقة ان المسكن حينها كان مملوكا لدودي الفايد، مما جعل الناس يتحدثون عن جدية العلاقة ” ..
فهل كانت تنوي الزواج؟
تساءل „ رفيقي ” هذا سؤال محير ومتناقض مثل الاميرة نفسها.. فقد اكد والد دودي ان ابنه طلب يد الاميرة وادعى انه ارسل ثلاثة صناديق شمبانيا الى قصر كينزينغتون للاحتفال بزوجة المستقبل.. كما انه كان يعتقد ان ديانا كانت حاملا بجنين من دودي، وقد أظهرت بعض الصور استداره بطنها بشكل لافت.. وهو ادعاء نفته روزا مونكتون التي قالت ان ديانا جاءتها العادة الشهرية اثناء اقامتها معهما في اليونان.. وقد اكد ذلك الطبيب الشرعي الدكتور جون بيرتون «لقد فحصت رحمها واعرف انها لم تكن حاملا»..
صفحة قديمة
ثم قال : „ وقد استبعد بعض اصدقاء الاميرة ان تكون على وشك الزواج من دودي.. فقد ادعت صديقتها لانا ماركس ان ديانا اتصلت بها هاتفيا وقالت لها ان دودي سيكون «صفحة قديمة» في حياتها.. كما قالت صديقة اخرى هي غولو لالفاني انها تبادلت معها الحديث مازحة حول توفير بعض المال لتقديم هدية زفاف لها الا ان ديانا ابلغتها بأنه على الرغم من انها تستمتع بحياتها فإنه لا توجد اي نية في الزواج.. وهناك اصدقاء آخرون كانوا يخشون انها قد تكون في طريقها الى اختيار خاطئ آخر.. وقد اتصل بها آحد معارفها تيدي فورتسمان هاتفيا في يخت الفايد وسألها «ما هذه اللعبة التي تلعبينها؟» وقد هدأته الاميرة بقولها ان تلك العلاقة الرومانسية كانت بكل بساطة «نزوة صيف».. ويبدو ان الاميرة كانت تقول لأصدقائها ما كانوا يحبون ان يسمعوه! ” ..
إذاً قال „ رفيقي ” .. : „ الإجازة الصيفية الأخيرة، التي شهدت وقائع قصة الحب بين الأميرة ديانا ودودي الفايد، قبل مقتلهما المأساوي والمفاجئ في أغسطس 1997 إنتهت.
مسيحية ومسلم
ثم أنه همَّ بالوقوف ولكنه جلس وقال : „ وأغرب شهادة في هذا الصدد تلك التي ادلى بها قس الكنيسة التي ترتادها .. الاب غيلي .. الذي التقتته بعد تعرضها للانتقادات بعد ان اخذت الاميرين وليام وهاري لمشاهدة فيلم «صاحب الشيطان» الذي يدور حول ارهابيين تابعين للجيش الجمهوري الايرلندي في مايو عام 1997.. وكانت قد دعته لتناول الشاي حيث تناول الحديث بينهما العديد من المسائل الروحية(!) وقد كانت مهتمة اكثر بمسألة الزواج بين امرأة مسيحية ورجل مسلم وان كان يسمح لهما بالزواج في الكنيسة ” ...
ثم قال لي رفيقي : „ هل تعلم يا عزيزي أن القسيس Frank Gelli ذكر أن الأميرة سألته حين التقت به إذا كانت الكنيسة تأذن بزواج شخصين من دينين مختلفين، فأخبرها أن ذلك ممكن ومسموح ” ؛ كما تحدثت اليه في وقت لاحق عن دودي الفايد وشاركته آمالها واحلامها.. وكانت تشعر بأن دودي يستطيع الاعتناء بها وان يقدم لها الحب والأمن الذي لم تنعم به من قبل.. وفي آخر اسبوع في حياتها اتصلت مرة اخرى بالاب غيلي، وكانت تلك المرة من على متن يخت الفايد، وسألته حول الزواج وعن عقد القَران في الكنيسة.. وقال غيلي: «لقد كانت ديانا سعيدة للغاية وتعيش حالة حب، وارى بكل امانة انهما لو كانا حيين الآن لتزوجا».
ثم أڪمل ڪأنه يحمل وثائق سرية .. فقال : „ هل تعلم يا صديقي أنThe Sunday Express البريطانية في عدد الأحد؛ ٦ أغسطس ٢٠١٧ م، نشرت مقابلة مهمة مع القسيس في كنيسة إنجيلية مجاورة لقصر Kensington حيث ڪانت ديانا تقيم مع ابنيها الأميرين وليام وهاري بعد طلاقها في 1996 من أبيهما ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز وقتذاك، وفي المقابلة ذكر القسيس Frank Gelli أن الأميرة سألته حين التقت به صدفة(!) إذا كانت الڪنيسة تأذن بزواج شخصين من دينين مختلفين، فأخبرها أن ذلك ممڪن ومسموح.. وڪانت ديانا تعرف القسيس "جيللي" من ارتيادها ڪنيسة St Mary Abbots أحياناً، فتجلس علىٰ أحد المقاعد الأخيرة الخلفية، متجنبة الفضوليين، ومرة ثانية سألته الشيء نفسه، ثم قال: "رن هاتفها حين ڪنا نتحدث، فلمعت عيناها، وڪان على الخط صديقها Dodi طبعاً" .. في إشارة إلىٰ اللقب المعروف به عماد الدين الفايد دلعاً. وعلق بالقول : "ڪانت سعيدة جداً، وحبها (للفايد) ڪان ڪبيراً" .. تابع القسيس حديثه وقال: "قبل أن تهم بالمغادرة، سألتني "إذا كنت علىٰ استعداد لإجراء المراسم في الڪنيسة عندما تقرر الزواج " وذڪر أنه ڪان متأڪداً من أنها والفايد، البالغ وقتها 41 سنة "ڪانا سيتزوجان لو لم يتعرضا للحادث الذي أنهىٰ حياتهما معاً".
روى "جيللي" أيضاً أنها حين كانت في رحلة بالمتوسط على يخت Jonikal الذي يملڪه والد الفايد، اتصلت بالقسيس عبر الهاتف وقالت له: "لديّ أخبار جيدة" لڪنها لم تذڪر تفاصيلها ونوعها، بل طلبت منه أن يزورها في قصر " Kensington " حين تعود، إلا أنها لم تعد إلى لندن سوىٰ جثة هامدة بعمر 36 سنة.
قال رفيقي: „ ودفنوها مع سرها الڪبير! ” ..
انتهت رواية „ رفيقي ”.. والظاهر أنه تأثر بها كثيراً .. ثم انقشعت تلك الغمامة ولم أدر ما الداعي عنده لحكايتها ..
ثم في لحظة صدق مع الذات؛ حين أريد أن أحاوره .. قلتُ لــ „ رفيقي ” : « „ حقيقةً.. ڪم يملك الإنسان داخل أعماق خبايا نفسه البشرية أحاسيس .. وبين دواخل ڪينونته الآدمية مشاعر .. ويخبئ بين حشايا جوانبه الإنسانية رغبات ويسترها في صدره ولكن بقدر ضيقه فلا يظهرها .. هذا الإنسان يخفي رغباتَه العديدة ويستر ڪماً هائلاً مِن المتناقضات النفسية والعاطفية والشعورية والغرائزية .. والتي .. قد .. تترجم إلىٰ سلوڪيات عملية في نهاره ضد الآخر أو مع الآخر أو يمارسها إثناء نومه أو بين أضغاث أحلامه فلا يتأذىٰ منها أحد .. أو قد يتفاعل معها سلباً دون تنفيذها بين ساعات نهاره راغباً في تحقيقها .. وقد يمنعه مانع روحي .. أو مانع عملي .. أو مانع ديني أو مانع إجتماعي؛ إذ يخشى أن يراه أحد .. إذ لم تتحين له الظروف ممارسة مثل هذه الرغبات أو تحقيق تلك النزعات ..
وحين تتساقط تلك الموانع آحدها بعد الآخرى أو جميعها مرة واحدة فلا عامل التقوىٰ يزجره ولا العامل الروحي يوقفه .. فلحظة سقوط المانع أو جميعها يفتح له الشيطان الرجيم أو بتعبير دقيق تعبث بصدره وسوسته فتفتح نافذة المعصية وإن صغرت وضاقت .. ثم يحسن له شيطان الإنس الفعل ترويجاً من خلال الشاشة الفضية أو التلفزيونية أو منصات الفساد الإجتماعي ..فــ تتسع النافذة فتصبح بابا عريضاً يسهل الولوج إليه أو الدخول من خلال رفقة السوء.. ” » ؛
أراد „ رفيقي ” مقاطعتي عدة مرات تلويحاً بيده أو بهزةٍ من رأسه أو بتململٍ في قعدته بيد أنني لم أمڪنه من الحديث ! ..
ثم بادرته قبل أن يتڪلم بلفظةٍ ما..
فقلت له : « „ نعم .. نعم .. صحيح خُلق الإنسان ضعيفاً(1).. والإنسان يا „ رفيقي ” بالفعل ظلوم لنفسه(2) .. دَه يا عم إنت ولا حاجة خالص(3) وبعدين إنتَ الجهل ماليك مِن فوقك لتحتك لولا معلم ومدرسة لبقيت علىٰ حالك أُمي.. جاهل .. يعني « „ طبلية ” » ولا حاجه تعرفها في دنيتك(4) .. لڪن هذا الإنسان مع ضعفه يملك مقومات القوىٰ العظمى.. ؛
ثم أوقفني „ رفيقي ” معلياً صوته بشدة متناهية ڪأنها يهتف في مظاهرة لإسقاط الحكم أو لإسقاط الرئيس .. فقال :" بس {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم}(5) ... ".
فقلت له : „ يا دڪتور .. يا بتاع المدارس ڪمل .. المعنىٰ لم يڪتمل بعد ! ”
فرد بسرعة متناهية فقال: „ يادڪتور يا بتاع الجامعة الفيناوية .. جامعة الخواجات .. دِي آية ڪاملة بالتمام والڪمال ” .
فقلت له „ بقية المعنىٰ .. ولم أقل بقية الآية ” .
فقال بهدوء العالِم المتمڪن من حجته:„ والمعنىٰ ڪمان أڪتمل.. ولا آِيه ”.
فقلت له : „ طيب فين الآية إللي بعدها مباشرة بتقول (6) {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِين}[التين:5] ” ..
فقال : „ طيب .. وبعدها جاءت الآية بتقول : {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون}[التين:6] ”
ثم وضحت له : „ وخاصةً -الإنسان- أنه يملك قواه العاقلة .. بل أشد عناصر القوة والمنعة إذا استخدمها وهي سهلة ميسورة ويوفق لها بيسر .. إذ أن القيام بالفعل أقرب ما يقترب مِن الامتناع عن الفعل والإنشغال بفعل أصلح آخر ” ؛
...
وكأن „ رفيقي ” .اراد أن يلمح إلىٰ حالات الزنا والتي أنتشرت بين الشباب العرب المغترب ! .. فقد ذكر لي مراراً قول آحدهم له : « „ إذا أردت أن تحسن لغتك .. فصاحب فتاة .. ” » ؛ ..
ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ.
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
[(1)] {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}[النساء:28]
[(2)] {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كفَّار}[إبراهيم:34] . {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}[الأحزاب:72] {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}[مريم:67] {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54]
[(3)] {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}[مريم:67]
[(4)] {خَلَقَ الإِنسَان}[الرحمن:3] {عَلَّمَهُ الْبَيَان}[الرحمن:4] .
[(5)] [ سورة التين؛ ورقمها (95): آية رقم 4] .
[(6)] [سورة: التين:آية : 5] .
. ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ. ".
[(*)] يوم 21 مايو 1962.. عبدالناصر يعرض وثيقة «الميثاق الوطني» أمام 1500 من أعضاء المؤتمر الوطني للقوى الشعبية بقاعة جامعة القاهرة
وقف الرئيس جمال عبدالناصر أمام 1500 عضو هم أعضاء المؤتمر الوطني للقوى الشعبية ليلقى عليهم وثيقة «الميثاق الوطني» يوم 21 مايو 1962، فى القاعة الكبرى لجامعة القاهرة.
كانت وثيقة «الميثاق الوطني»: أول دليل عمل مكتوب تستند إليه الفئة الحاكمة فى توضيح موقفها السياسي والاجتماعي والمناقشات التي دارت حوله كانت مطلقة السراح، وفقا لتأكيد أحمد حمروش فى كتابه «23 يوليو، مجتمع جمال عبدالناصر»، مؤكدا أن المشاركين تم انتخابهم، وتمت هذه الانتخابات على مراحل تبعا للفئات المختلفة، وبدأت يوم 5 فبراير 1962، وانتهت فى نفس الشهر يوم 24، وأسفرت على تشكيل المؤتمر على النحو التالى:” 1500 : منهم 379 يمثلون الفلاحين، 310 يمثلون العمال، 150 من الرأسمالية الوطنية، 293 من النقابات المهنية، 135 موظفا، 23 سيدة، 105 من أساتذة الجامعات، 105 طلاب من القسم الثانوي والجامعات يضاف إليهم أعضاء اللجنة التحضيرية.
يسجل «حمروش» ملاحظة: أن أنور السادات كان يجلس على يمين جمال عبدالناصر باعتباره أمينا عاما للمؤتمر، وكان كمال الدين حسين على يساره، وكان تولى السادات لهذا المنصب إيذانا بانتهاء دور كمال الدين حسين فى التنظيم السياسي.
يذكر سامي شرف مدير مكتب جمال عبدالناصر فى الكتاب الثالث من مذكراته «سنوات وأيام مع جمال عبدالناصر»، أن ميثاق العمل الوطني الذى أعلنه الرئيس جمال عبدالناصر كان دليل عمل لمرحلة جديدة من العمل السياسي، بتشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي وإجراء انتخابات عامة لمجلس الأمة، ووضع الدستور الدائم سنة 1964»، يؤكد: وأوضح الرئيس عبدالناصر تفصيلا كل الخطوات والطريق للوصول إلى تحقيق أهداف المرحلة، ورسم صورة المجتمع الجديد وحدد المفاهيم والقيم والمعايير، ودور قوى الشعب العامل التي سيجرى على العمل على أساسها، من أجل الوصول إلى هذا المجتمع الجديد، وكان فى مقدمتها قضايا الحرية والاشتراكية والوحدة.
يوضح شرف: ميثاق العمل الوطني شمل عشرة أبواب وهى، فى ضرورة الثورة، جذور النضال المصري، درس النكسة، عن الديمقراطية السليمة، فى حتمية الحل الاشتراكي، الإنتاج والمجتمع، مع التطبيق الاشتراكي ومشاكله، الوحدة العربية، السياسة الخارجية».
وعن الديمقراطية السليمة فى الباب الخامس، يذكر شرف، أن الرئيس حدد الأسس التالية، أولا: إن الديمقراطية السياسية لا يمكن أن تنفصل عن الديمقراطية الاجتماعية، ولا تتحقق الديمقراطية الاجتماعية إلا بتحرير الفرد من الاستغلال، وإتاحة الفرصة المتكافئة وتخليصه من كل قلق على مستقبله.. ثانيا: الديمقراطية السياسية لا يمكن أن تتحقق فى ظل سيطرة طبقة من الطبقات، وإنما تتحقق الديمقراطية بسلطة مجموع الشعب وسيادته، ولابد أن يسقط تحالف الرجعية والرأسمالية المستغلة، ولابد أن يحل محله التفاعل بين قوى الشعب العاملة، الفلاحين والعمال والجنود، والمثقفين والرأسمالية الوطنية غير المستغلة.
ثالثا: وحدة هذه القوى تصنع الاتحاد الاشتراكي العربي الذى يصبح السلطة الممثلة للشعب، والدافعة لإمكانيات الثورة، والحارسة على قيم الديمقراطية السليمة، وفى هذا الصدد، فإن هناك أربعة أسس لابد من قيامها فى الاتحاد الاشتراكي العربي هى: أن يكون للفلاحين والعمال نصف المقاعد فى كل المجالس الشعبية بما فيها المجلس النيابي، وذلك باعتبارهم الأغلبية التي طال حرمانها، سلطة المجالس الشعبية يجب أن تتأكد فوق سلطة أجهزة الدولة التنفيذية، خلق جهاز سياسي جديد داخل الاتحاد الاشتراكي العربي يجذب العناصر الصالحة للقيادة وينظم جهودها ونشاطها، جماعية القيادة لتكون عاصما من جموح الفرد، وتأكيدا للديمقراطية على أعلى المستويات وتجديد القيادة باستمرار.
رابعا: تدعيم قوى الجمعيات التعاونية الزراعية ونقابات العمال، خامسا: حرية النقد والنقد الذاتى وحرية الصحافة بعد تخليصها من قوانين الرجعية ومن سيطرة رأس المال، سادسا: توفير ما يلي: تعليم يُمكن الإنسان الفرد من القدرة على إعادة تشكيل الحياة، وقانون يساير الديمقراطية السلمية، ويعبر عنها، وعدل يصل إلى الفرد دون موانع مادية أو تعقيدات إدارية ولوائح، كانت كلها أو معظمها من وضع الطبقة الواحدة، وهذه يجب تغييرها لتخدم ديمقراطية الشعب
[(**)]:" واختلفت تقارير وسائل الإعلام حول اسم كوجو - وهي كلمة هندية تعني (القوة التي لا يمكن إيقافها)، عندما كان اليخت. لصديق ديانا، دودي الفايد ". :" تم بناء كوجو في إيطاليا عام 1972 لرجل الأعمال جون فون نيومان. وتم تزويده بمحركين من 18 أسطوانة، لضمان سرعة قصوى تبلغ 42 عقدة. ثم باع فون نيومان القارب لابن عدنان خاشقجي تاجر السلاح، وباعه عدنان فيما بعد لدودي الفايد. ". :" كشفت صحيفة "الديلي ميل" عن غرق اليخت الفاخر الذي أمضت فيه الأميرة ديانا، وصديقها دودي الفايد، إجازتهما الصيفية الأخيرة في جنوب فرنسا قبل وفاتهما. ". :" وأوضحت الصحيفة بأن اليخت الذي يُطلق عليه اسم "كوجو"، غرق في قاع البحر الأبيض ‏المتوسط،تحت أمواج البحر الأبيض المتوسط، بالقرب من مدينة نيس، يوم السبت الماضي.‏ ". :" ويبدو أن سبب غرقه هو ‏اصطدامه العنيف بجسم مجهول على بعد حوالَي ‏‎29‎‏ كم من ‏الريفييرا الفرنسيّة.‏ ". :" تعرض اليخت :" اليخت كوجو ماي داي ".الذي كان يملكه رجل الأعمال المِصري الراحل دودي الفايد، والذي قضت عليه الأميرة ديانا آخر إجازة لها في فرنسا للغرق. .. تحت أمواج البحر المتوسط بعد اصطدامه بجسم مجهول قبالة بوليو سور مير علىٰ الريفيرا الفرنسية. لكن انتهى الأمر بالقارب على عمق 2500 متر (8200 قدم). ".
- عمادالدين محمد عبدالمنعم فايد (15 أبريل 1955 – 31 أغسطس 1997) ". :" يوليه 1997، أو "دودي" مِن الجيل الجديد، ولد في الإسكندرية، ودرس بمعهد شهير في مدينة "بيرن" السويسرية، اسمه Le Rosey الذي أسس قبل 137 سنة، وتخرج بإدارة الأعمال من "أكاديمية ساندهيرست" الملكية العسكرية بإنكلترا، ونشط في مجال السينما، بإنتاجه عدداً من الأفلام، بحسب الوارد بسيرته، وهو وحيد أبويه. والدته الراحلة في 1986 هي الكاتبة السعودية سميرة خاشقجي.
ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ
[ (47) ] (حالة زنا..)
الإثنين 21 محرم 1445هـ ~ 07 أغسطس2023م


ج1 2022 >>

 [ 46 ] بلاد الفرنجة[(*)]

.. في غرفة لا تزيد عن [35] متراً مربعاً قسمت إلىٰ مدخلٍ إليها به إمڪانية الطبخ وبجوار بابها مباشرة يوجد دُش للاستحمام وفي زاويتها اليمنىٰ للداخل ڪنبةٌ علىٰ حرف « „ L ” » ؛ أمامها ترابيزة لتناول الفطور والغذاء؛ ويقابل تلك الڪنبة دولاب لأغراض الطبخ ولوازمه .. وثلاثة خطىٰ يسير بهم الساڪن ليدخل إلىٰ مڪان للمذاڪرة والنوم .. وبخارجها -في الممر- ڪابينة لقضاء الحاجة مشاركةً مع جارٍ أو أڪثر صيفاً وشتاءً وفقاً لنظام المباني القديم .. وتقع في الحي العاشر بالعاصمة الفييناوية ؛ ورحم الله بيوت أجدادنا ڪيف ڪانت !!! .. ولعل وجهة النظر في الحياة ومقياس ستر العورة يلعب دوراً أساسياً في بناء البيوت وشڪل المنازل ..
وڪان المهم -وقتها- أن إيجارها يناسب طالب جامعة تحت الإشراف العلمي لدولته وليس مبتعثاً علىٰ نفقة حكومته ..
في تلك الشقة(!) « الضيقة » نوعاً ما سڪن „ رفيقي ” فيها .. وشارڪته السڪنىٰ معه حتىٰ يحدث الله في أحوالنا أمرا ڪان مفعولاً!
وڪنا نتبادل الحديث والحوار قبيل الخلود إلىٰ النوم حتىٰ يغلب النعاس آحدنا فيتڪلم الآخر فلا يسمعه ولا حتىٰ زقزقة عصافير الأحلام بمستقبل باهر يصاحب الزقوقة تلك شخير منتظم أو منقطع وفقاً لوضع الرأس علىٰ الوسادة الخالية .. وغالباً ڪنا نجلس متقابلين إذا ڪان الموضوع له أهمية .. ڪلٌ علىٰ سريره !
وقال „ رفيقي” ذات ليلة :
« „ العلاقة بصورها المتعددة؛ وأشڪالها المختلفة بين الشرق وبين الغرب لم تنقطع يوماً ما .. أو في عصر ما .. أو في زمن ما ” » ؛
فقد ڪانت هذه العلاقة أو بتعبير أدق ذلك الفارق الواضح بينهما يشغل بالنا ڪثيراً .. إذ قد أدرڪنا الحياة والبعض منا ينظر إلىٰ الغرب نظرة إعجاب بما عنده ويرغب في تحسين أحوال البلاد والعباد والبعض الآخر ينظر بعين الإنبهار ويريد التقليد دون أنى تفڪير ..
أڪمل „ رفيقي ” حديثه .. إذ لم أدرك بعد غايته أو مقصده من هذا الحديث فقال:
« العلاقة موجودة بيننا وبينهم طالما وجدت وسيلة إنتقال -وهي لا تنعدم .. وإن ڪان مشياً علىٰ الأقدام لعدة أميال أو رڪوب البحر مخاطرة لمن لا يحسن العوم - أو وسيلة إتصال أو بطريقة شرعية أو تسلل عبر الحدود .. أضف الرغبة في معرفة الآخر أو الاستفادة منه وتحصيل ڪل ما عنده من منافع؛ وجلب العديد من المصالح .. » ؛
ثم تنهد وأردف قائلا:
« ولا أذڪر الأن .. مَن ڪان يأتي صيفاً إلىٰ أوروبا .. خاصةً باريس .. مدينة النور ليقرأ ما فاته مِن مقالات في الجرائد التي لم يتحصل عليها أو ڪتب صدرت خلال العام الذي مر عليه وهو في مِصر ليطلع علىٰ أحدث ما اخرجته المطابع أو ڪتبه فلاسفة أو مفكرين أو علماء في مجال تخصصه أو في حيز اهتماماته .. وڪان يجمع له تلك المقالات أو الڪُتب زميل له يعيش في الغرب وهو يعلم ما هي الإهتمامات لهذا الزميل الذي يعيش في مِصر ” » ..
..
هڪذا بدء „ رفيقي ” حديثه معي.. وڪأن هذه مقدمة أو مدخل أو تمهيد لما يريد الوصول إليه ..
ثم قال :
« .. بيد أن نوع العلاقة وڪيفيتها وشڪلها ومضمونها وما يترتب عليها يتوقف علىٰ مدىٰ مظاهر القوة التي يملڪها طرف منهما.. أو القدرات الفعلية سواء العلمية أو الفلسفية لڪل طرف أو ما يحوزها الطرفين معاً من إمڪانيات تسمح بالتفوق .. ثم يتحدد شڪل العلاقة ويتعين علىٰ مقياس القوة تلك .. فتڪون إما مثل بمثل ورأس برأس ڪــ فرسيّ رهان في حلبة العلم .. أو تبعية بخضوع وذل أو ڪتقليد القردة وأصوات الببغاوات دون وعي أو فهم .. فتصنع شعوب صُنع القوي القاهر المنتصر »..
..
أستهل „ رفيقي ” حديثه معي بهذه المقدمة القديمة تاريخياً .. والحديثة نوعاً ما في بداية أمسية مِن ليال فيينا الساحرة خاصةً في بداية مطلع وقدوم صيف جديد ..
فقد ڪانت العائلات(**) الغنية المِصرية تغادر البَر المِصري متجهة إلىٰ الشمال الأوروبي اللطيف المناخ نوعا ما عن حر قمة القارة الأفريقية أو مَن يعيش في „ مِصر .. أم الدنيا ” .. ووقتها لم تڪن -بعد- مناطق تطل علىٰ الخليج العربي لها قائمة بين الأمم أو سطوة بين الشعوب حتىٰ تفجرت ينابيع الذهب الأسود! ما عدا زمن شاة إيران الفارسي ..
توقف „ رفيقي ” عن الحديث وڪأنه يرغب في استذڪار أحداث بعينها .. إما تخصه هو شخصياً .. وإما تخص أمراء عائلات البترودولار أو القطط السمان من بقية بلاد ما يطلق عليها العالم الثالث ..
..
ڪعادته -إذا ڪان الموضوع عنده ذات أهمية- اعتدل في جلسته ثم بدء الحديث ناظراً أمامه .. ڪأنه ينظر إلىٰ أفق بعيد يرىٰ مداه ثم قال :
« فــ عند المِثلية في القوة -اقتصاديةً ڪانت أو عسكريةً أو التقدم في العلوم الطبيعية - تُرفع الرأس عالياً .. أما عند التبعية فينخفض الڪيان الإنساني بأڪمله .. روحاً وفڪراً وسلوڪاً ومنطقاً .. فلا يرىٰ المنهزم نفسياً إلا ما يراه القوي المنتصر الغالب .. ولا يريد إلا ما يرغب فيه المتڪبر .. فيصير التقليد والتشبيه سمة وعلامة عند الضعيف .. » ..
ثم قام „ رفيقي ” مِن مقعده.. ڪأنه تمڪن بعد عناء مِن حمل „ سيف عنترة بن شداد ” وإن ڪان عبداً أسوداً ڪما شخصَّه وحش شاشة العرب والشاشة الفضية المِصرية « فريد شوقي » ؛ ڪما أُطلق عليه..
..
وحقيقةً أحياناً ڪثيرةً لا أفهم مقصود حرڪات „ رفيقي ” ولا مدلول إيماءاته .. ولا جلوسه -هڪذا- متمڪنا في قعدته أو واقفاً ڪأنه يريد السير في طريق بعينه أو ڪأن أمامه سلما للعروج إلىٰ افاق علوية أو ملوحاً بيده ماداً أصابعه في فضاء واسع .. علىٰ الأقل يراه هو واسع بما يڪفيه أو علوي بما يناسبه ..
ثم أعتدل واقفاً -لم يرغب في الجلوس- .. وقال :
« و .. في العصر الحديث .. قالوا:" أراد « محمد علي » -والي مِصر- أن تضارع مِصر اوروبا في مضمار التقدم العلمي والاجتماعي.. فـ اعتزم أن ينقل الىٰ مِصر معارف اوروبا .. وخبرة علمائها ومهندسيها .. ورجال الحرب .. والصنائع والفنون فيها .. فــ وجه همته إلىٰ ايفاد البعثات المدرسية إلىٰ أوروبا ليتم الشبان المِصريون دراستهم في معاهدها العلمية.،.فهو لم يڪن يڪتفِ بأن يؤسس المدارس والمعاهد العلمية بمِصرَ ليتلقىٰ فيها المِصريون العلوم التي تنهض بالمجتمع المِصري .. بل أراد مِن جهة اخرىٰ ان تجد مِصر مِن خريجي هذه البعثات ڪفايتها مِن المعلمين في مدارسها العالية،
.. فقلتُ له رافعا يد الإعتراض :
« قِف .. قِف .. » ؛
.. أوقفته .. أن يڪمل حديثه .. إذ لاحظت أن „ رفيقي ” يقرأ مِن ورقة علقها أمام مڪتبه وبين ڪتبه .. وليس مِن خواطر تمر بفڪره.. ولم يمڪنني من إيقافه إذ أڪمل مسرعاً يقول :
« .. والقواد والضباط لجيشها وبحريتها .. ومهندسيها والقائمين علىٰ شؤون العمران فيها .. وإدارة حڪومتها .. لڪي لا تڪون مع الزمن عالة علىٰ اوروبا مِن هذه الناحية ” » ؛ ..
ثم ..
ظهر بوضوح علىٰ إمارات وجهه وإن ڪان الضوء خافت قليلاً ..
.. « „ تعجباً لعبقريته! ” » ؛
ثم قال :
« „ ڪيف انبتت- عبقرية « محمد علي » - هذا المشروع(!!!؟؟؟)، ففي ذلك العصر لم يفڪر حاڪم شرقي(!) .. ولا حڪومة شرقية (!) .. في ايفاد مثل هذه البعثات .. وهذه تركيا -الخلافة العثمانية أو ڪما قيل عنها الإمبراطورية- وسلطانها ڪان يملك من الحول والسلطة والنفوذ أڪثر مما يملك محمد علي، لم تفكر الإدارة التركية -حينذاك- اصلا في ايفاد البعثات المدرسية الىٰ المعاهد الاوروبية، فصدور هذه الفڪرة في ذلك العصر وفي الوقت الذي ڪان « محمد علي » مشغولا فيه بمختلف الحروب والمشاريع والهواجس يدل حقيقةً علىٰ .. عبقريةٍ نادرةٍ .. وهمّةٍ عاليةٍ » ؛ ..
والأن جلس وأعتدل „ رفيقي ” في جلسته وڪأنه وضع يده علىٰ وثيقة نادرة .. أو إڪتشاف علمي .. أو ڪنز أثري لم يسبقه أحد إليه..
وقال بصوت هادئ:
« نحن درسنا مساوئ حكم أسرة محمد علي في مادة التاريخ » ؛
ولم يعلق ڪثيراً علىٰ تلك النقطة الجوهرية .. ولم يلقِ لها بالاً .. إذ تربت أجيال وأجيال علىٰ هذه المادة في ڪتب التاريخ المِصري الحديث .. خاصةً بعد ثورة الضباط الأحرار علىٰ نظام الحڪم الملڪي ومن ثم تغييره أو عند البعض يسمىٰ بــ إنقلاب العسڪر على الملك!
.. ولعل الأمر عندي -لتڪتمه في هذه الجزئية ولم يڪملها- أنه معجب ڪثيراً بشخصية الزعيم الخالد « „ ناصر ” » ؛ صاحب الڪريزما الطاغية علىٰ مَن يراه أو يسمعه .. أو مَن يمقته فيڪرهه .. وهذه قضية شائڪة عنده وعندي!
ثم أراد أن يوثق ڪلامه فوضع رِجلاً فوق آخرىٰ متمڪناً في جلسته وهو يقول :
« ابتدأ « محمد علي » يرسل الطلبة المِصريين إلىٰ اوروبا حوالي سنة 1813م وما بعدها، وأولىٰ بلاد اتجه اليه فڪره .. إيطاليا، فأوفد إلىٰ « „ ليفورن وميلانو وفلورنسا وروما ” » ؛ وغيرها من المدن الإيطالية طائفة من الطلبة لدرس الفنون العسڪرية وبناء السفن وتعلم الهندسة وغير ذلك مِن الفنون. ..
وافراد هذه [(الرسالة)] البعثة لم يتناولهم الإحصاء الدقيق، وانما يعرف منهم « „ نقولا مسابڪي ” » افندي الذي اوفده إلىٰ روما وميلانو سنة 1816م بواسطة المسيو « „ روستي قنصل النمسا في مِصر » ؛ ليتعلم فن الطباعة وما اليها من سبك الحروف وصنع قوالبها، فاقام اربع سنوات ثم عاد الىٰ مِصر فتولىٰ ادارة مطبعة بولاق سنة 1821م وبقىٰ مديرا لها إلىٰ أن توفىٰ سنة 1831م..
وارسل بعض التلاميذ إلىٰ النمسا ..
وقد بلغ عدد الطلبة جميعاً الذين اوفدهم « محمد علي » إلىٰ اوروبا مِن سنة 1813م الىٰ سنة 1847م = 319 تلميذاً ، منهم 28 في الرسالات الثلاث الاولىٰ ابتداء مِن سنة 1813م إلىٰ سنة 1825م و291 في البعثات الڪبرىٰ ابتداء مِن سنة 1826م، فيڪون مجموعهم 310 تلميذاً .. وهو ...
...
.. استوقفته مرةً ثانية سائلاً بدهشة له :
« „ مِن أين أتيت بتلك المعلومات والإحصاءات والأرقام .. !!!؟؟ .. أمِن خيالِك ووهمِك .. ولا إنتَ معتمد علىٰ وثيقة تثبت صحة ما تقول !؟؟ » ؛
وڪأن „ رفيقي ” لم يسمعني .. أو .. تصنع عدم سماعي .. فــ أهمل الإجابة .. ثم أڪمل قائلاً:
« „ عددٌ عظيم .. أليس ڪذلك .. بالطبع .. اذا قيس بدرجة الثقافة التي بلغتها مِصر في ذلك العصر، وعظيم في نتائجه لأن هذه البعثات ڪان لها اوفر قسط في نهضة مِصر الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والحربية والسياسية .. ” » ؛
...
.. علا صوتي وارتفع موقِفاً إياه أن يڪمل سرده لأحداث أراها مِن الأهمية بمڪان وتحتاج لتوثيق وتحقيق .. إذ نحن نتحدث عن ڪيان أمة .. وأي أمةٍ .. إنها الأمة المِصرية ..
.. خاصةً .. إنه وأنا ندرس في الجامعة الأروبية ؛ ونحن اقرب الناس إلىٰ حال وواقع ما فعله والي مصر محمد علي في زمنه .. فليس نحن فقط في جامعة فيينا العريقة بل تڪاد جميع جامعات العالم في الغرب المتحضر والمتقدم علمياً وحتىٰ روسيا وأكرانيا ترسل حڪومة مِصر بعثات علمية لنيل شهادتي الماجستير التأهيلية لنيل درجة العُلية .. الدكتوراة فيما بعد في تخصصات مختلفة .. ومع ذلك ڪله هذا هو حال البلد ڪما يراه الجميع ..
.. لذا فڪان عندي تساءل تغلفه ريبة في جدوىٰ تلك البعثات !؟؟؟...
...
ويغلب علىٰ ظني أن „ رفيقي ” لم ينتبه لملاحظتي تلك بل أڪمل السرد مسرعاً ڪأنه واجب يومي ينبغي عليه إلقاؤه على المسامع دون مراجعته أو تحليله من حيث النفع أو التحصيل الفعلي أو سيسعىٰ إلىٰ التمعن في مدىٰ دقة تلك المعلومات المتوفرة لديه ومصدرها ومدىٰ تأثرها بعد ذلك علىٰ المستويات العلمية والإجتماعية والثقافية والتأثير المباشر علىٰ فڪر الڪثير من طلاب درسوا في الجامعات الغربية .. فقد صار الڪثيرين منهم مضبوعين ومطبعين بالثقافة الغربية .. وسلخوا أنفسهم من ثقافة بلادهم -سواء العربية أو الإسلامية- ڪمن يغير جلده وهويته وانتمائه فيصير عرياناً .. وڪما يقولون التأثير المباشر والذي يتبعه تغيير علىٰ الحالة الإجتماعية والوضع الإقتصادي والمستوىٰ العلمي والتقدم التقني .. إذ أن اليابان -مثلاً- ومِصر تقريباً بدءا في زمن متقارب ,, الأولى بعد الحرب العالمية الثانية والثانية بعد استلام الضباط الأحرار مقاليد الحكم .. وبعدها -اليابان- جاء دور النمور الأسيوية ثم الصين .. وانظر لحال تلك البلاد وحال „ أم الدنيا ” .. مِصر اليوم .. الأن ..
.. „ رفيقي ” لم يسمع قولي .. وأڪمل عمداً دون تعليق علىٰ ملاحظاتي! ..
فقال:
« „ وكان « محمد علي » شديد العناية والاهتمام باعضاء البعثات، يتقصىٰ انبائهم ويتتبع احوالهم ، ويڪتب لهم من حين لآخر رسائل يستحثهم فيها علىٰ العمل والاجتهاد .. وينبههم إلىٰ واجباتهم ..
وقد اورد « رفاعة » بك رافع نموذجاً مِن رسائله، وهو ڪتاب بعثه إلىٰ طلبة البعثة الاولىٰ في سبتمبر سنة 1829م يدل علىٰ مبلغ عنايته بشانهم وحثه اياهم علىٰ الجهد والاجتهاد ..
.. قال فيه ما نصه حرفياً:
« „ قدوة الاماثل الڪرام الافندية المقيمين في باريس لتحصيل العلوم والفنون .. زِيد قَدرَهم!..
.. ننهي اليڪم أنه قد وصلنا اخبارڪم الشهرية، والجداول المڪتوب فيها مدة(مدىٰ) تحصيلڪم، وڪانت هذه الجداول المشتملة علىٰ شغلڪم ثلاثة أشهر مبهمة(!) لم يفهم منها ما حصلتموه في هذه المدة، وما فهمنا منها شيئاً(!)، وانتم في مدينة مثل مدينة باريس التي هي منبع العلوم والفنون ، فقياساً علىٰ قلة شغلڪم في هذه المدة عرفنا عدم غيرتڪم وتحصيلڪم، وهذا الأمر غمنا غماً ڪثيراً...
فــ يا افندية!..
ما هو مأمولنا منڪم!!؟؟..
فڪان ينبغي لهذا الوقت ان ڪل واحد منڪم يرسل لنا شيئاً من ثمار شغله واثار مهارته، فإذا لم تغيروا هذه الباطلة بشدة الشغل والاجتهاد والغيرة .. وجئتم إلىٰ مِصر بعد قراءة بعض ڪتب .. فظننتم أنڪم تعلمتم العلوم والفنون .. فإن ظنڪم باطل، فعندنا -ولله الحمد والمِنّة- رفقاؤڪم المتعلمون يشتغلون ويحصلون الشهرة، فڪيف تقابلوهم إذا جئتم بهذه الڪيفية وتظهرون عليهم ڪمال العلوم والفنون، فينبغي للانسان ان يتبصر في عاقبة امره .. وعلىٰ العاقل الا يفوت الفرصة وأن يجني ثمرة تعبه، فبناءً علىٰ ذلك انڪم غفلتهم عن اغتنام هذه الفرصة. وترڪتم انفسڪم للسفاهة ولم تتفڪروا في المشقة والعذاب الذي يحصل لڪم من ذلك ولم تجتهدوا في ڪسب نظرنا وتوجهنا اليڪم لتتميزوا بين امثالڪم .. فإن اردتم ان تڪتسبوا رضاءنا .. فڪل واحد منڪم لا يفوت دقيقة واحدة من غير تحصيل العلوم والفنون..
وبعد ذلك ڪل واحد منڪم يذڪر ابتداءه وانتهاءه ڪل شهر، ويبين زيادة علىٰ ذلك درجته في الهندسة والحساب والرسم وما بقى عليه في خلاص هذه العلوم، ويڪتب في ڪل شهر ما يتعلمه في هذا الشهر زيادة علىٰ الشهر السابق، وان قصرتم في الاجتهاد والغيرة فاڪتبوا لنا سببه .. وهو إما مِن عدم اعتنائڪم .. أو من تشويشڪم .. وأي تشويش لڪم(!؟)، هل هو طبيعي او عارض(!؟)،
وحاصل الڪلام :
انڪم تڪتبون حالتڪم ڪما هي عليه حتىٰ نفهم ما عندڪم، وهذا مطلوبنا منڪم، فاقرءوا هذا الامر مجتمعين وافهموا مقصود هذه الارادة، وقد ڪتب هذا الامر في ديوان مِصر في مجلسنا في الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ -بمنه تعالىٰ-، فمتىٰ وصلڪم امرنا هذا فاعملوا بموجبه، وتجنبوا وتحاشوا عن خلافه ” » .
[ رسالة والي مصر محمد علي مؤرخة بتاريخ : 5 ربيع الاول سنة 1245 هــ ]..
..
ابتسم „ رفيقي ” ابتسامة عريضة ولم افهم مغزاها ونظر إليَّ وفي عينه بريق لامع ثم أڪمل قائلا:
« البعثة الثالثة (سنة 1829م).. هذه البعثة تغلب عليها الصبغة الصناعية، فمعظم افرادها ارسلوا للتخصص في مختلف الصناعات، ذلك حين اتجهت عزيمة « محمد علي » إلىٰ انشاء الصناعات الڪبرىٰ واقتباس العلوم والفنون الخاصة بالصناعة من المعاهد الاوروبية » ؛ ..
ونظر إليَّ منتشياً .. وقال بصوت واضح وعبارات مفخمة :
« التلاميذ الذين أرسلوا إلىٰ فيينا وعددهم 4 لتعلم صناعة نسيج الاجواخ والاڪسية المعروفة بالعباءات.. ” » ... .
ويحلو لــ „ رفيقي ” أن يجعل مِن مسقط رأسه مدينة الثغر المطلة علىٰ البحيرة المتوسطية مبدء العالم ومنتهاه ؛ وأحياناً اذڪره بأنه تقع علىٰ ضواحي مدينته الراقية العالية .. توجد عزبة تسمىٰ بــ عزبة القرود .. وكوبري الناموس وزعربانة..
.. فهل لو وُلد تحت ڪوبري الناموس بدلا مِن مستشفىٰ الخديو إسماعيل للولادة وقابلة الولادة إنجليزية -ڪما يتشدق هو دائماً- أڪان سيفتخر بموضع مسقط رأسه ..
يحلو لــ „ رفيقي ” أن يفتخر بأن أعضاء البعثة العلمية :
.. « رڪبوا البحر من الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ، وبدأوا رحلة السفر إلىٰ مارسيليا بفرنسا، يوم 6 رمضان 1241هـ، الموافق 12 إبريل عام 1826م، وفقًا للشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». و « ڪان المسافرون 44 شاباً، أرسلهم « محمد علي » باشا -والي مِصر- فى بعثة تعليمية، ترجع أهميتها إلىٰ أنها أولىٰ البعثات العلمية الڪبيرة إلىٰ أوروبا في تاريخ البعوث العلمية أيام محمد علي، ڪما تفوق الڪثير مِن بين أعضائها »..
حسبما يذڪر ڪتاب «بناء دولة محمد علي» تأليف الدڪتور محمد فؤاد شڪري، وعبدالمقصود العناني، وسيد محمد خليل. ڪان «الطهطاوي» ضمن أعضاء هذه البعثة، التى سبقها بعثتان إلى إيطاليا فى 1809م و 1813م، واختار «الباشا» فرنسا للبعثة الثالثة لأسباب يڪشف عنها «آلآن سيليفيرا» فى مقال «أول بعثة علمية تعليمية مِصرية إلىٰ فرنسا فى عهد محمد علي»، ترجمة خلود سعيد «مجلة ذاڪرة مِصر- مڪتبة الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ - يوليو 2015م»، يقول: إن اختيار فرنسا سببه أن «بوغوص بك يوسفيان» وزير خارجية محمد علي ڪان يفضل إرسال الطلاب إلىٰ إيطاليا أو إنجلترا، واستشار صديقه «دروفيتى» فڪتب له: «جامعات إيطاليا تهفت تحت وطأة الأنظمة الرجعية .. والتعصب الديني يغلب علىٰ شعبها الذى يعادي المسلمين، فى حين تتميز باريس بالتسامح والڪرم تجاه الأجانب، والمناخ الصحي والمؤسسات المتميزة في التعليم العالي». ..
يؤيد «الطهطاوى» هذا الرأي فى «تخليص الإبريز»، قائلا: «لا ينڪر منصف أن بلاد الأفرنج الآن فى غاية البراعة في العلوم الحڪمية وأعلاها في التبحر في ذلك، فى بلاد الإنكليز، والفرنسيس، والنمسا، فإن حڪماءها فاقوا الحڪماء المتقدمين، ڪأرسطاليس وأفلاطون، وبقراط، وأمثالهم، وأتقنوا الرياضيات والطبيعيات، والإلهيات، وما وراء الطبيعيات أشد إتقان، وفلسفتهم أخلص من فلسفة المتقدمين، لما أنهم يقيمون الأدلة علىٰ وجود الله تعالىٰ، وبقاء الأرواح والثواب والعقاب، وإذا رأيت ڪيفية سياستها، علمت ڪمال راحة الغرباء فيها وحظهم وانبساطهم مع أهلها، فالغالب عن أهلها البشاشة فى وجوه الغرباء، ومراعاة خواطرهم، ولو اختلف الدين، وذلك لأن أڪثر أهل هذه المدينة إنما لهم من دين النصرانية الاسم فقط، حيث لا ينتحل دينه، ولا غيرة له عليه، بل هو من الفرق المحسنة والمقبحة بالعقل، أو فرقة من الإباحيين الذين يقولون: إن ڪل عمل يأذن فيه العقل صواب، فإذا ذڪرت له دين الإسلام فى مقابلة غيره من الأديان أثنىٰ علىٰ سائرها، من حيث إنها ڪلها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنڪر، وإذا ذڪرته فى مقابلة العلوم الطبيعية قال: إنه لا يصدق بشىء مما ڪتب أهل الڪتاب لخروجه عن الأمور الطبيعية».
يضيف الطهطاوي:«فى بلاد الفرنسيس يباح التعبد بسائر الأديان، فلا يعارض مسلم فى بنائه مسجدًا، ولا يهودي فى بنائه بيعة، إلىٰ آخره، ولعل هذا ڪله هو علة وسبب إرسال البعوث فيها هذه المرة الأولىٰ أبلغ من أربعين نفسًا لتعلم العلوم المفقودة، بل سائر النصارىٰ تبعث أيضًا إليها، فيأتي إليها من بلاد «أمريكية» وغيرها من الممالك البعيدة».
يڪشف «سليفيرا» عن أعضاء هذه البعثة، مؤڪدًا أن «الطهطاوي» ڪان أصغر قليلًا من الباقين الذين ڪانت متوسط أعمارهم السادسة والعشرين، وڪان هو فى الخامسة والعشرين من عمره «مواليد 15 أكتوبر 1801م - طهطا - سوهاج»..
ويضيف أيضاً : «ڪان أعضاء البعثة معظمهم ينتمون إلىٰ عائلات ميسورة يملأها الطموح باعتبارها من المفضلين فى هذه المناسبة، وڪان هذا بالضبط ما حدث مع الطلاب الأربعة الموهوبين من الأرمن الڪاثوليك، وباستثناء هؤلاء الطلاب الأرمن ڪان جميعهم من المسلمين، ونزولا علىٰ رغبة الشيخ حسن العطار، تم ضم الشيخ رفاعة للبعثة فى آخر لحظة ليڪون إمامها».
يڪشف «الطهطاوى» أنه بعد اختيار أعضاء البعثة خرجوا من مِصر «القاهرة» يوم الجمعة 8 شعبان 1241 هجرية..
ويتذڪر: «رڪبنا زوارق صغيرة وتوجهنا إلىٰ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ، وأقمنا علىٰ ظهر النيل المبارك أربعة أيام، وڪان دخولنا الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ يوم الأربعاء «ثالث عشر يوما» من شهر شعبان، فمڪثنا فيها ثلاثة وعشرين يوما في سراية الوالي». .
وأخيراً .. ظهر لي بوضوح تام أن „ رفيقي ” قد أعد هذه المعلومات مِن قبل أن نجلس سوياً ونسقها ثم رتبها ..
إذ أنه أڪمل القول :
.. « يؤڪد الطهطاوى أنه لم ير الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ من قبل .. ؛ ..
ويقول :«ڪان خروجنا إلىٰ البلد في هذه المدة قليلا، فلم يسهل لي ذڪر شىء من شأنها، غير أنه ظهر لي أنها قريبة الميل فى وضعها وحالة بلاد الإفرنج، وإن ڪنت وقتئذ لم أر شيئا من بلاد الإفرنج أصلا، وإنما فهمت ذلك مما رأيته فيها دون غيرها من بلاد مِصر، ولڪثرة الإفرنج بها، ولڪون أغلب السوقة يتڪلم ببعض شىء من اللغة الطليانية ونحو ذلك، وتحقق ذلك عندي بعد وصولي إلىٰ مارسيليا، فإن الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ عينة «مارسيليا» ونموذجها، ولما ذهبت إليها وجدتها قطعة من أوروبا».
يذڪر الشيخ عبدالمتعال الصعيدي فى ڪتابه «تاريخ الإصلاح في الأزهر»: «لما جاء وقت سفر رفاعة ذهب إليه أستاذه حسن العطار، ليزوده بنصائحه وإرشاداته، فنصحه بأن يقوم بتدوين ڪل ما يراه في تلك البلاد العجيبة، ويعنى بدراسة العلوم التى نبغوا فيها، وڪانت سبب قوتهم ونهضتهم، ليقوموا بنقلها إلىٰ اللغة العربية فيستفيد أهلها منها، ونهضوا بها ڪما نهض أهل أوروبا..
.فيرتفع صوت « رفيقي » بالقول:
.. « ونفذ الطهطاوي نصيحة أستاذه، فڪتب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز».
هنا توقفنا معاً وقلنا في نفس واحد : ..
.. « هناك فارق ڪبير ڪالبعد بين السماء والأرض حال الشيخ رفاعة والذي أتقن اللغة الفرنسية في أربع سنوات .. ومَن جاءوا مِن بعده في ثمانينات القرن الماضي : ڪــ مبتعث مُرسل من الأزهر للتجمع المِصري (العربي) .. ولعل الإشكال يڪمن في أنهم لا يحسنون لُغة أجنبية سوى لغة القرآن وحتىٰ السواد الأعظم مِن مَن يعتلي منابر المصليات سواء عرب أو أتراك أو جنسيات آخرىٰ إلا القليل النادر منهم لا يحسنون الحديث باللغة العربية الفصحىٰ ناهيك عن لغة القوم الألمانية »
.. لم أدرِ ڪيف أُڪملت هذه الليلة .. إذ أن الحديث عن بلد -في حجم مِصر- ومستقبلها ووضعها ومرڪزها وقد غلبنا النعاس .. فنمنا ولعل الحديث في هذه الجزئية سيأتي لاحقاً ..
وقد قلتُ في نفسي ولم أخبر « رفيقي » :
.. « قد يحمل المرء المتناقضات ڪلها بين جوانبه ويسعىٰ إلىٰ إخفائها غير أنها تظهر من فلتات لسانه ومن خلال حركات يديه العفوية أو ما يسمى بلغة الجسد .. فما بالك بحال أمة عريقة ڪالأمة المِصرية !.. وهذا مشروع مستقبل يحتاج لرجال يحملون بين جوانبهم عزيمة جبارة وغرادة قوية ... » ؛
..
بيد أن „ رفيقي ” لا يخجل في إظهار تلك المتناقضات بل ويبوح بها ويتحدث عنها.. ولا أدري!.. أمحاولة منه في علاج خلل ما اصاب شخصيته أم اعتراف بعجز ما.. وهذا ما يحتاج إلىٰ تفصيل!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)*
ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ

[(*)] بلاد الفرنجة هي فرنسا . تطلق أحيانا علىٰ ڪافة أقوام أوروبا عدا الأتْرَاك والرُوم.
[(**)] توقف الدڪتور محمد حسين هيڪل باشا - رئيس مجلس الشيوخ المِصري- في باريس، أثناء عودته مِن العاصمة الإيرلندية "دبلن"، حيث ڪان يشارك فى مؤتمر «الاتحاد البرلماني الدولي»، فشاهد وسمع وقرأ ما يجعله يطأطئ رأسه خجلًا. فــ يذكر «هيڪل باشا» في الجزء الثاني مِن مذڪراته فيقول: «اطلعت في الصحف الفرنسية عند أحد أصدقائي الفرنسيين علىٰ طائفة من المقالات والصور التي نشرت عن الملك فاروق فطأطأت رأسي، واطلعت ڪذلك علىٰ بعض المجلات الأمريكية فإذا هي تنشر عن حوادث فاروق وتصفه بأقبح الصفات، ورأيت فى بعض مسارح باريس تعريضًا بالملك ومغامراته يندىٰ لها الجبين، وسمعت من بعض معارفي ما واجهوا حين عرف محدثوهم أنهم مِصريون، فآثرت ألا أتعرض لمثل ما تعرضوا له .. وزاد الطين بلة أن ڪانت الصحف الأوروبية والأمريكية تنشر عن التحقيقات التي كانت تجرى فى مِصر عن الأسلحة والذخيرة الفاسدة التي اشتريت للجيش المِصرى المحارب في فلسطين، مما يندى له الجبين.. كانت صحف أوروبا تنشر من التفاصيل الخاصة بهذا التحقيق ما يزيد الدعاية ضد الملك وضد مِصر إثارة لنفس كل من يتابعها، وما يجعل المِصريين المقيمين بباريس وبأوروبا يطأطئون رؤوسهم خزيًا وخجلًا»...
وتحدثت الصحف عن وقائع رحلة الملك إلىٰ أوروبا التي كانت «قمة استهتاره وطيشه لتهوى به إلىٰ القاع»، حسب رأي الدكتورة لطيفة سالم فى كتابها «فاروق وسقوط الملڪية في مصر»، مؤكدة أنه سافر على اليخت "فخار البحار" فى 10 أغسطس «1950» تحت اسم مستعار، هو «فؤاد باشا المِصري»، ليتمكن من إطلاق حريته كما يريد، وتضيف: «طار كريم ثابت مستشاره الصحفي مع حسن عاكف طياره الخاص ليكونا فى استقباله فى أول ميناء يرسو فيه اليخت الملكي، ووصل اليخت إلى دوفيل بفرنسا، وكان قد حجز للملك وحاشيته 25 غرفة فى فندق «دي جولف»، وانتفت صفة السرية، وتخلى عن الاسم المزيف، ووقف أمام الفندق 60 صحفيًا، حيث وجدوا المادة الصحفية التي تثريهم، وبلغ عدد أفراد الحاشية 51 شخصًا من بينهم 14 من رجال البوليس السري، وصحب معه 13 سيارة كاديلاك وثلاث لوريات، وتعجبت الصحافة الأجنبية من مثل تلك الحاشية».
ثم يؤكد «هيكل باشا» أنه «حين قرر فاروق أن يكون مصيف دوفيل مقره الرئيسي، وجعل نادي هذه المدينة مكان سمره وسهره ولعبه القمار، كما كان الحال فى نادي السيارات بالقاهرة، ما لبثت غانيات باريس والفاتنات الدوليات- حين عرفن ذلك- أن هرع عدد كبير منهن إلى دوفيل، مؤمنات بأن ملك مِصر يريد أن يقضى صيفه فى مرح ومسرة، وزادهن إيمانًا أن دعيت الراقصة المِصرية سامية جمال إلى دوفيل لتبعث برقصاتها إلى هذا المجتمع المِصرى الفرنسي الدولي النعمة والنعيم»،
ويذكر أحمد بهاء الدين فى كتابه «فاروق ملكًا»: «ألهبت أنباء قرب وصول فاروق إلى دوفيل مخيلة الغانيات فى المنطقة كلها، وهن يذكرن أن الملك يدفع فى العام الماضي 500 ألف فرنك لتلك التي تجالسه، وأنه يدفع 3 ملايين فرنك، حوالى 3 آلاف جنيه، لتلك التى تتشرف برفقته حتى الصباح». ..
أما لطيفة سالم تنقل وقائع فضائح فاروق فى رحلته، استنادًا إلى صحف «الأهرام»، و«أخبار اليوم»، و«آخر لحظة»، و«البلاغ» في أعداد : 11؛ 16؛ 19؛ 21؛ 24؛ 25 أغسطس عام 1950م، أي في الأيام التي تزامنت مع هذه الزيارة، ومما جاء فيها: «أقيم أول حفل فى دوفيل غنت فيه المغنية الفرنسية آنى برييه «أنشودة النيل»، وبناء على تحكيم الملك أعطاها جائزة مخصوصة، وهى ممن تلقَ إعجابه، إذ سبق أن غنت أمامه فى الإسكارابيه وتعلقَ بها، ورقصت الفنانة سامية جمال وهي الأخرى لها الحظوة لديه، بالإضافة إلى الفرقة الباريسية وراقصات نيويورك». ..
تسابقت الصحف الفرنسية في وصف الحفل، واعتبرته ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة، وينقل الكاتب الصحفي حلمي سلام فى كتابه «أيامه الأخيرة.. قصة ملك باع نفسه للشيطان»، بعض عناوين الصحف الفرنسية التي نقلت فضائح «فاروق»، ففي «فرانس برس» خبر يقول: «فاروق ينتزع السبق فى السباق في دوفيل، ويخسر أربعة ملايين ونصف المليون فرنك فى نصف ساعة»، وتضيف: «اشترى فاروق بعض المجوهرات الثمينة من محلات فان كليف ولكن لم يعرف بعد من ستفوز بهذه المجوهرات، هل ستكون سامية جمال هي الفائزة، أو الراقصة سيرين أو جيمونا أو المغنية آنى برييه، إنه على كل حال يحمل المجوهرات فى جيب سترته الأيمن، ويقال إن سونيا عارضة الأزياء فى محلات كارفن ستكون هى الفائزة». .. يضيف «سلام»: «كانت صحيفة «رادار» ترسل عيونها ليوافوها بما يستجد من شؤون الملك الخليع، لتنقل لقرائها خبرها اليقين، وشهدت دوفيل فى ليلة من ليالي الشرق الساخنة سامية جمال وهي ترقص حافية القدمين، فى ثوب مطرز بالفضة، وقد أرسلت شعرها يصرخ في الهواء». ..
[( اليوم السابع؛ سعيد الشحات: الجمعة، 10 أغسطس 2018م )]
... فهل تغير الحال ڪثيرا عند الملوك والأمراء الجدد!؟.. لا أظن!
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
[(٢)] الجزء الثاني : « القصة بدأت »
﴿ رُوَايَّةُ : « „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ” ».﴾
[46 ] بلاد الفرنجة
:" وَرَقَةُ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ".
فيينا - Vienne - لحظة إطلالها علىٰ الدانوب الأزرق
الجمعة : 26 ذو الحجة 1444 هــ ~ 14 يوليو 2023م.
 

ج1 2022 >>

45 غربةٌ

الجزء الثاني
من﴿ رُوَايَّةِ : « „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ” ».﴾
وَرَقَةُ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ

.. « „ رحلةُ بناءِ الذات الآدمية .. ومشوارُ بناءِ مستقبل إنسان .. وتحسين ڪامل وضعه الاجتماعي والمادي بين الناس .. بطرق مشروعة أو بوسائل غير قانونية .. وإعتلاء مرڪزه المرموق بين الأنام والذي يرغب فيه والذي عمل من أجله سنوات .. ولعل الأصعب : ڪيفية تڪوين وبناء الشخصية الإنسانية بشقيها : العقلي الفهمي الإدراڪي ؛ والنفسي الباطني الروحي .. ليستوعب من خلالهما -العقلية والنفسية- دوره المنوط به ڪإنسان في الحياة .. فيترتب على ذلك ڪيف يقضي المرء سنوات عمره .. وڪيف يحيا إنسان ويعيش أيام حياته .. ڪيف يصبح آدمياً - بالفعل - بصفات الإنسانية الموروثة من خلال جينات آدم ؛ ونعوت الآدمية الأصلية من حيث الخَلق وأوصاف وخصائص ومزايا الإنسانية المڪتسبة من خلال نوع التربية ودرجة التثقيف ومستوىٰ التعليم .. بعد هذا القدر الڪبير مِن التڪريم والقدح المعلىٰ من التبجيل ؛ والمقدار العظيم من التفخيم والمستوىٰ العالي من التقدير ” » ..
.. ويسڪت برهةً „ رفيقي ” عن الحديث ڪأنه يستجمع بنات أفڪاره ويرتب مفردات جمله .. ثم يعاود إڪمال حديثه :
« „ أولاً في شخص أبي البشرية آدم .. تڪريم لمخلوق لم يحدث من قبل ولن يحدث من بعد حيث الخَلق الأول ؛ والإيجاد علىٰ غير مثال سابق يحتذىٰ به ؛ والتڪوين دون استشارة لأحدٍ من الموجودات والخلائق ؛ والتنشأة بيده - سبحانه - من عدم .. ونفخ الروح منه - صاحب الأمر والنهي ؛ والذي أمره بين الڪاف والنون - .. والذي إذا أراد شيئاً يقول له ڪن فيڪون دون تعب أو نصب أو إعياء أو وصب وحين ينتهي من الخلق فلا يصيبه فتور أو ملل أو إرهاق أو تعب .. فــ تعليم آدم الاسماء ڪلها .. فــ سجود الملآئڪة له جميعها تقديراً لعلمه واعترافاً بفضله تڪريماً وليس عبادة .. ما عدا إبليس اللعين .. آبىٰ واستڪبر ورفض الأمر ولم يطع .. ثم يأتي تڪريم من نوع جديد إذ إسڪنه خالقه الجنة مع زوجه لزمن وجيز وعمر زهيد .. فاثبت الآمر الناهي منذ اللحظة الأولىٰ لخلق الإنسان - آدم وزوجه - قضية الأمر بالفعل لما يحبه خالقه ورازقه والنهي عما يڪره ويبغضه فيترتب علىٰ ذلك قضية الحساب والثواب والعقاب .. ثم بعد ذلك يثبت الخالق وجوده في عملية تخليق نسل الإنسان الأول - آدم - وذريته بطريقة آخرىٰ مغايرة تماماً للأولىٰ إمعاناً في تثبيت فڪرة الخَلق مِن عدم والإيجاد مِن لا شئ .. ففي الحالة الأولىٰ الخَلق من تراب ليس فيه حياة أو مظاهر حياة .. وفي الحالة الثانية الخَلق من نطفة ليس فيها حياة أو مظاهر حياة ولكنها قادرة على البقاء والتڪاثر لخلايا حتىٰ يأتي مَلك الأرحام من قِبل الرحيم الرحمن فيثبت الحمل من بعد إذنه في ظلمات الأرحام ..ثم تنفخ فيه الروح ڪما يحدث لــ إنسان اليوم وإبداعه في أحسن تقويم وأڪمل تڪوين وأعلىٰ وأرفع إنشاء ” » ..
-*-
.. بدء „ رفيقي ” أمسيته معي بـ مقدمته هذه في مسامرتنا شبه اليومية ذاتَ ليلةٍ .. وغالباً لا يڪون لها عنوان معين أو قضية تبحث .. بل توارد أفڪار .. وبتلك العبارات والجمل والتراڪيب الإنشائية والقدرات البلاغية .. وغالب مقدماته تتناسب مع الموضوع الذي يغرد حوله ويرغب في الحديث عنه أو المسألة المبحوثة والتي رغب في لڪلام عنها .. وڪان أحياناً يفتخر أنه قارئ جيد منذ نعومة أظافره لڪبار الڪُتاب - وخاصةً المِصريين منهم - في الجرائد السيارة .. أو أجلاء العلماء في علوم الفقه والتفسير .. وهم - الڪُتاب والعلماء - ڪانوا يحسنون تقديم مقدمة رائعة جيدة ڪمدخل للموضوع المبحوث أو الفڪرة التي يراد عرضها .. وڪان يخص دائماً مقالة الأهرام المِصري اليومي تحت عنوان « „ بصراحة ” » لــ « „ محمد حسنين هيڪل ” » ؛ وڪان معجباً ڪثيراً به ؛ وڪيفية طرحه لمباحثه وسرد وقائع حدثت والاستدلال والتوثيق ، وأن صرح عدة مرات أنه لم يڪن يفهم ڪل ما يڪتبه هيڪل في مقال صراحته! ..
ڪما صرح بما لا يدع مجالاً للشك عند السامع بأنه معجب بالزعيم الخالد صاحب الڪريزما « „ الطاغية ” » .. وڪان دائماً ينبه علىٰ أن وصفه يعود علىٰ الڪريزما وينبه أن الصفة تعود علىٰ أقرب مذڪور في جملته ، خاصةً وقد انقسم الناس في تقديره إلىٰ ثلاث فرق : فرقة تمجده ؛ وفرقة تڪفره ؛ وفرقة تقلل مِن شأنه وتبحث عن مثالبه وعيوبه .. وقد لاحظ « „ رفيقي ” » تقاربا فڪرياً بين الرجلين .. ناصر العروبة ورافع شأن العرب وهيڪل الصحافة رجل الثقافة ..
ثم .. أڪمل „ رفيقي ” قوله:
.. « „ وتبدءُ معالم هذا المشوار الإنساني لڪل فرد ؛ وتفاصيل هذه الرحلة ومسائل وقضايا بناء الذات الآدمية .. والشخصية الإنسانية بشقيها .. تبدءُ عادةً مبڪراً جداً .. وتبدء حتىٰ قبل التلقيح بين ذڪر وأنثىٰ .. في جانبٍ متدنٍ من علاقة ثنائية حميمية والتي تحرڪهما فقط قطرات من هرمونات تفرز من غدد جسدهما فتحرك بعض أعضاء البدن .. والباعث عند كلٍ منهما رغبة في الشعور بالإشباع مع أدنىٰ شعور بإحساس وأقل تقديم أو تقدير من المشاعر .. أو .. ” » ..
ويعتدل „ رفيقي ” في جلسته ناظراً إلىٰ سماء الغرفة .. ثم يقول بصوت متزن :
.. « „ أو علاقة ڪأنها علوية ؛ ڪما تصورها أساطير الآله الإغريقية أو رسومات ونحوتات الفراعنة علىٰ جدران معابدهم .. أو التي يتغنى بها فطاحل الشعر العربي سواء المعلقات أو المذهبيات أو ما ثبت في ديوان العرب قديماً وحديثاً .. يلقي الشاعر ويبوح بمشاعره علىٰ مقربة من أُذن حبيبته وجانب معشوقته الأيسر .. فخلد التاريخ المقولة وحفر الشاعر اسمه علىٰ جدران صحائف العشق العذري حين تتوارىٰ خلف ستائر العفة فيلفها العفاف ويخبأها الحياء .. تلك العلاقة ذات الأبعاد فوق مادية بين رجلٍ يحترم ذاته وامرأةٍ طاهرة الذيل في جانب آخر من الإشباعات .. وليس فقط إشباع الجسد .. في جانبٍ راقٍ في التمازج .. فــ يسبق الإحساسَ بها -الأنثىٰ- الإدراكُ أن بجوارك ڪائن موجود مرهف الإحساس رفيع الشعور تخدش خدها هَبَّةُ نسمة فجر عليل .. يحتاج لـ مشارڪة وجدانية روحانية قبل تقارب بدني أو إلتصاق جسدي .. ” » ..
ثم يعمق „ رفيقي ” النظر في اتجاه ما فيڪمل قائلاً:
« „ وإن ڪانت في الظاهر - عند الفريقين: ذڪر/أنثىٰ أو رجل/امرأة - المحصلة متقاربة أو متشابة : إذ هي إشباع لمظهر من مظاهر غريزة النوع .. ولڪن ڪيفية الإشباع ودرجة علو الشعور ومدىٰ صدق الإحساس ؛ وما يترتب علىٰ هذا السمو في العلاقة من مشاعر راقية وعواطف جياشة حقيقية عالية .. وإڪمال بقية مشوار الحياة مع هذا الڪائن الأنثوي يختلف ڪثيرا كــ إختلاف الليل والنهار أو أڪثر بڪثير .. ولعل هناك آثر ينبه الجميع يقول :
.. « „ لا تقعوا علىٰ نسائكم ڪالبهائم ” » [(1)] ” » ..
يتوقف „ رفيقي ” عن الحديث ثم يبدء في إعادة ترتيب جملته الأولىٰ في تلك الأمسية بقوله :
.. « „ وعملية بناء هذا الوجود في هذا الڪيان الإنساني يبدء قبل عملية التخليق ومراحلها المتعددة والمختلفة .. ثم وجود الإنسان فعلاً وحقيقةً بصورته هذه الحالية المشاهدة للعين الناظرة أو البصيرة الفاحصة .. ” » ..
ثم ڪأنه يرغب في توجيه الخطاب إليَّ أنا شخصياً :
.. « „ .... إذ أن اختيار أم لولدِكَ تبدءُ قُبيل تخصيب بويضتها (الخلية التناسلية الأنثوية´Eizelle´ ) وتلقيحها بالسائل المنوي (Sammenflussigkeit ) سواء كنت -فقط- ذكرا ما أو بالفعل أنتَ رجل تحمل سمات الرجولة وعندك مفهوم الفحولة وتملك مجموعة مِن القيم النبيلة عن الحياة ؛ وتستحوذ علىٰ كتلة مِن القناعات الراقية حين تمارس افعالك وينطق لسانك بــ أقوالك وتتحرك جوارحك بــ تصرفاتك في الحياة ؛ وتجمع حزمة المفاهيم الرفيعة عن الحياة صحيحة ؛ ومقاييس غير قابلة للتفاوض سليمة تصهرها (القيم القناعات المفاهيم المقاييس) جميعها في بوتقةِ مبدأٍ صحيح سليم يقبله العقل فيطمئن إليه القلب فتطبقه الجوارح فتهدأ النفس وترتاح الروح .. إذ بمجموع مڪونات هذا المبدأ تحدد سلوڪك اليومي في الدنيا التي تعيشها .. ” » ..
وڪأنه انتهىٰ من مهمة الشرح والتوضيح لڪنه تذڪر شيئاً ما ڪأنه غفل عنه أو نسي أن يبينه فقال علىٰ الفور دون إلتقاط الأنفاس :
.. « „ .. ڪذا اختيار أب لولدِكِ يبدء قُبيل الإفتراش[(2)] .. ” » ..
وڪأن أنضم لمجلسنا ضيف ثالث دون أن ندري بوجوده فقال موجهاً الحديث للضيف الحاضر :
.. « „ .. ولقد علمنا رسول الإسلام - مع أميته؛ وهي علامة سامقة للإعجاز العلمي والتفوق التشريعي والسمو المنهجي في الإسلام؛ وأميته آية واضحة لصدق نبوته - إذ أنه قد تحصل علىٰ جوامع الڪلم - فهو علمنا بجانب العقائد وأحكام العبادات .. علمنا محاسن الأخلاق وعالِ السلوڪيات فيقول في حديث له ؛ مخاطباً الشباب والرجال :" [اللَّهم بَدِّلْه بالعَهْرِ العِفَّةَ] "[(3)]. فتبدء عملية اختيار أب لولدِكِ قُبيل الجلوس بين شعبكِ[(4)] الأربع ؛ فإذا أراد الخالق المبدع المصور - لحكمته وعلمه السابق - تخليق جنين بُعَيد لحظة استمتاع ولذة وإنسجام قد لا يدرڪها أحد الطرفين فسيتم هذا سواء مِن صحيح نڪاح فسيڪون لهما ثواب .. أو ذميم سفاح فلهما عقاب .. ” » ..
توقف „ رفيقي ” عن حديثه وإن أراد الاسترسال !.. بيد أنه اِقْتَضَبَ كَلاَمَهُ : فاِرْتَجَلَهُ، وظهر لي أنه تَكَلَّمَ مِنْ غَيْرِ إِعْدَادٍ لما يريد أن يقول ويخبرني به .. فقال :
.. « „ .. في حقيقةِ .. ” » ..
وسڪت .. ثم سحب شفطة مِن ڪوب الشاي بالحليب الذي يرغب تناولة مساءً قبيل ذهابه لفراشة ليخلد إلىٰ النوم :
.. « „ في حقيقةِ الأمرِ يعيش الإنسان في عدة أنواع من الغربة .. غربة في فڪره تعارض ما تلقاه من تعليم .. وآخرىٰ في عقيدته تتعارض مع تربية الأجداد وإيمان العجائز .. وثالثة في محيط معاشه وزملائه وأقرانه وما يستحدث من تقاليد تعارض عادات تربىٰ عليها .. ورابعة غربة عن إدراك نفسه ومعرفة ذاته مع هجمة لأمركة الحياة وتغريب العرب ” » ..
ثم توقفنا معاً عن التنفس .. وڪأننا اغتربنا عن بعضنا البعض ونحن في نفس غرفة المعيشة!
-*-
وعاد بي „ رفيقي ” .. لسنوات خلت .. فتحدث عن العام الدراسي الجامعي الأول في مسيرته الدراسية ..
فقد أراد „ رفيقي ” .. الابن الوحيد لأبيه الحي ؛ والذي لم يتجاوز سن الخمسين مِن عمره ..
أراد أن يڪون أحد طلبة القسم الداخلي في سڪن المدينة الجامعية ..
والطريف إن إدارة المدينة الجامعية قبلت أوراقه مع أنه يسڪن في نفس المدينة .. الْإِسْــڪَنْدَرِيَّةِ ..
ولعلها هي الخطوة الأولىٰ في الاستقلال عن العائلة ولو جزئياً .. والرغبة الدفينة في الاعتماد علىٰ الذات .. وغُربةٌ ما في موطنه ومسقط رأسه وبلد نشأته!
وڪان في ڪل نهاية إسبوع .. تقريباً عصر الخميس يأخذ ملابسه المتسخة ڪي تنظفها له أمه وتڪويها وترتبها في شنطة سفره الصغيرة .. وتعطيه ما يحب مِن الحلويات والتي تصنعها خصيصاً له وتڪفيه لمدة إسبوع .. وكان يقسم قطع تلك الحلوىٰ علىٰ مدار الأيام التي سيبقيها في سڪن الطلبة الداخلي -في دولاب ملابسه -!
وڪان سعيداً في حياته تلك الجديدة ..
ففطوره .. وغذاؤه .. وعشاؤه جاهز يتناولة دائماً في مواعيد بعينها .. ڪي يتمڪن من حضور محاضرات اليوم الواحد .. والمناخ المحيط بسڪن الطلاب ڪان صحياً .. فــ هواؤه نظيف عليل .. فلا ضوضاء تسمع لـ سيارات ولا غبار يستنشقه المرء من سير عربات ولا أصوات مزعجة تأتي من الخارج عبر النوافذ ..
لڪن توجد عنده مسألة قديمة وهي حبه للإنفراد .. اقرب ما يڪون للإعتزال عن محيطه ..
وهذه قد فهمتها بناءً علىٰ أنه ابنا وحيدا لأبويه !
ولعل „ رفيقي ” يتذڪر أنه في آحدىٰ الأمسيات جاء عميد الكلية وطلب جمعهم .. ثم حدثهم أن بعض الطلبة في ڪلية الحقوق والأداب يحتجزون عمادة الڪلية وأنه يجب عليهم فك هذا الاعتصام وإنهاء هذا الحصار .. وتم تحضيرهم .. طلبة السڪن الداخلي .. طلبة جامعيون ضد طلبة جامعيين .. دون تدخل أمني .. وفي آخر لحظة .. وڪأن وزارة الداخلية فرع محافظة الْإِسْــڪَنْدَرِيَّةِ .. قررت خلاف ذلك فلم يحدث شيئا ما!
ولعل إقامة „ رفيقي ” في سڪن الطلاب يعتبر مرحلة أولىٰ في رحلة الإغتراب .. والتي سيبدؤها بعد قليل! .. والبعد عن محيط العائلة !
والطريف أن بقية سنوات الدراسة في الجامعة قرر أن يغادر ڪل يوم مِن بيته مشياً علىٰ الأقدام مسافة ثم بالمواصلات العامة المسافة البعيدة المتبقية في اتجاه ڪليته!
وقرار دخوله إلىٰ تلك الجامعة ڪان اقتراحاً وجيهاً مِن أبن خالته الأستاذ „ حسن ” .... وحيثيات رأيه أنه بعد أربع سنوات دراسة سيحصل علىٰ درجة جامعية „ بڪالوريوس ” .. والناس بتنظر إلىٰ الشهادة الجامعية نظرة مختلفة لمن يحصل فقط علىٰ شهادة دبلوم متوسط أو عال!
وهنا تأتي نظرة المجتمع والناس للتعليم ودرجته! .. والشهادة الأڪاديمية .. وإن ڪان الميڪانيڪي أو الورشـــچــي يحصل دخل يومي ما يعادل دخل خريج جامعي في شهر!
* * * * *
في الراحة الصيفية للعام الدراسي الأول في الجامعة أراد „ رفيقي ” أن يسافر في تلك الشهور ويغادر مِصر ..
ولڪن إلىٰ أين!
وڪان في تلك المرحلة من تاريخ مِصر .. السفر .. والتغريب ڪأنه موضة!
ولا يدرك أو يستوعب „ رفيقي ” .. أهل هذه متماشية مع سياسة الانفتاح التي اعتمدتها إدارة الدولة وقتذاك .. أم لا!
.. وقُبيل مغادرة „ رفيقي ” مسڪنه في أول رحلة صيفية له خارج القُطر المِصري .. تجد أجواء منزله مضطربة قليلاً .. فوالده لا يحبذ فڪرة سفر ولده الوحيد إلىٰ الخارج ..
إذ مَن يسافر يريد أن يحوش مِن عمله في الخارج ليتمڪن مِن فتح محل خردوات أو سوبر مارڪت أو ورشة أو معرض أحذية أو ملابس مستوردة أو يشتري شقة ليتمڪن من الزواج والعيش فيها .. أو يشتري قطعة أرض زراعية مجاورة لأرض أبيه وجده .. أو بناء دور - منزل – جديد على الرض الزراعية والتي تقلصت!
وعائلة „ رفيقي ” ميسورة الحال!
وهو ما زال في بداية سنوات مستوىٰ تعليمه الجامعي ..
فـ لما الرغبة الملحة في السفر! ..
وبـ التالي.. لم يساعده والده بــ قرش تعريفة واحد أو مليم أحمر في ثمن التذڪرة .. تبياناً له أنه غير راضٍ عن تلك السفرة ..
إذ لا يوجد مسوغ معقول لترك بلاد النهر الفضي وسواحل البحر الأبيض أو الأحمر ورمال شواطئهما الناعمة والعمل عند العباد في آخر البلاد ..
والطرافة أن التي ڪانت موافقة تماماً علىٰ مغادرة البلاد والسفر لبلاد الغربة .. ڪانت أمه! .. جدته لأبيه قد أنتقلت إلىٰ رحمة الله تعالىٰ ..
و „ رفيقي ” لم يڪن لديه من طرف أمه ما يبرر تلك الموافقة .. ولعلها .. رغبتها الدفينة أن يعتمد ابنها المدلل علىٰ نفسه .. وأن يصبح „ رجلاً ” بالفعل „ ملو هدومه ” ....
ولم يحدث نقاش عائلي بصوت هادئ أو عال يُبين وجة نظر مَن يوافق أو مَن يعترض!..
ولعلها طريقة تربية .. أن يفهم أحد افراد العائلة ما هو المطلوب منه دون إبداء الأسباب .. أو مناقشة بطريقة ما !
* * *
قُبيل مغادرة „ رفيقي ” مسڪنه في أول رحلة صيفية له خارج القُطر المِصري .. أخذ يفڪر إلىٰ أين اتجاه الرحلة الأولىٰ له في حياته العملية ..
فاقترحت عليه الوالدة السفر إلىٰ ليبيا .. دولة مجاورة لمِصر .. توجد حدود مشترڪة بين الدولتين .. وقد شاع السفر إليها .. ويجلب المغترب مِن هناك أدوات ڪهربائية للمطبخ ولوازم غرفة المعيشة وما يحتاجه البيت .. وطبعاً تحويشة .. ليبني بيتاً علىٰ الأرض الزراعية فتقلصت مساحة الأرض المزروعة .. وبالتالي قلَّ محصول وإنتاج الأرض مِن ما يصدر للخارج للحصول علىٰ عملة صعبة أو ما تحتاجه البلاد والعباد من خضروات وفاڪهة أو حتىٰ برسيم للبهائم .. أو يفتح - المغترب الذي عاد - محل بقالة أو ورشة فلا يفلح الأرض أو يزرعها .. وقس هذا ڪذلك علىٰ عمال المصانع .. إذ لا توجد سياسة رشيدة في المعاملة سواء مع المزارعين ومحدودية الأرض المزروعة منذ مئات السنين أو مع العمال وتجديد آلات المصانع!
وفي المقابل فقد سهل العقيد معمر القذافي سبل الدخول إلىٰ بلاده والمغادرة .. وقد فُتحت بالفعل الحدود والمرور ببطاقة إثبات الهوية الشخصية ..
ولعل مِن الأخطاء الجسيمة التي وقع فيها رجال إدارة الدولة المِصرية - وقتذاك - ذلك الانفتاح .. لما ترتب عليه العديد من مصائب.. خاصة البنية الإجتماعية ؛ واحتياج الأنثىٰ ليڪون في فراشها ذڪر وتربية الأولاد وخاصة البنات ودخول غريب ثقافة علىٰ المجتمع المِصري .. خاصة ثقافة البدو - مجتمع مغلق - في مجتمع مدني - مجتمع مفتوح منفتح علىٰ ثقافات العالم - ومقولة عميد الأدب العربي المحفورة في الذاڪرة المِصرية : „ نحن - مِصر - قطعة من أوروبا ”!
فقد غادر فلاحو مِصر الأرض الزراعية للعمل في دول الخليج أو ليبيا .. ڪـ عمال بناء .. ڪما غادر عمال المصانع آلاتهم ڪي يجمع الجميع حفنة مِن البترودولار ..
خطأ ضخم وقعت فيه إدارة دولة بحجم مِصر ..
وقد نفهم - بالعافية أو بالذوق - .. فنبرر إعارة المهندسين لبناء دول صحراوية وتشييد مبان شتىٰ حڪومية ومدارس ومشاف ودور عبادة حديثة .. أو إعارة مدرسين لتعليم شعوب منطقة لا تحسن القراءة .. أو إعارة أطباء وطاقم تمريض .. إذ لا توجد في تلك البلاد - وقتها - البنية التحتية لشكل أو بناءمدينة حديثة أو دولة .. يوجد فقط مصدر تدفق أموال .. وهذا ڪان في الستينات من القرن المنصرم ..
* * * *
في بداية السبعينات - وفي شهور الراحة الصيفية للعام الدراسي الأول - ڪان قريباً لــ „ رفيقي ” يعمل في ليبيا .. فسهل الوصول إليه .. حين عرف عنوانه ..
والإشڪال أن „ رفيقي ” لا يحسن صنعة بعينها فهو تلميذ مدرسة فـ طالب جامعي .. ولم يتعلم صنعة ما .. فماذا سيفعل في ليبيا وسوق العمل في ليبيا يحتاج صنيعية مهرة .. وقدراً ذهب لجريدة الجمهورية والتي تصدر في طرابلس الغرب وتحدث مع أحد الصحفيين .. ورق لحاله فقال له :
„ سوف أجد لك عملاً .. عند أحد الأصدقاء أو المعارف .. أعطيني مهلة يوم أو اثنين! ” .
بالفعل عمل محاسباً في مصنع شرشور ؛ أي تقطيع الحجارة .. وقد ڪُتبتْ له الحياة من جديد ڪما أخبرني .. إذ وجد تحت مخدة رأسه „ عقرب ”!
ولعلي أتحدث عن تلك الواقعة في الصفحات القادمات!
والأسوأ في هذا الانفتاح في مِصر ڪانت الزيجات التي تمت بين بنات مِصر العذارىٰ البڪارىٰ وبين مَن يحمل بعض الورقات البنڪنوتية مِن البترودولار ..
وفي آخر زمن دراسته الإبتدائية وبداية المرحلة الإعدادية ڪان „ رفيقي ” يذهب إلىٰ أستاذه « „ أُدولف ” » وڪانت هناك شابة بطفلها الرضيع تريد الطلاق مِن زوجها الليبي حيث ڪانت معاملتها من ابناء هذا الرجل وزوجته الأولىٰ معاملة الجارية .. وليس الزوجة الثانية أو الثالثة وليس معاملة حتىٰ الخادمة! .. وإن أنجبت منه طفلاً!
* * *
قُبيل مغادرة „ رفيقي ” مسڪنه في أول رحلة صيفية له خارج القُطر المِصري .. جلس مع والدته في صالون البيت ووضعت يدها علىٰ رڪبتيه وبصوت هادئ قالت له :
.. « „ عاوزه أقول لك ڪلمة اسمعها .. وحطها حلقة في وداناك ” » ..
ثم قالت:
.. « „ .. أسمع الڪلام إللي راح اقوله لكَ ده.. ” » .. :
« „ مَن زَنا في غُربَتِهِ أرجعَهُ اللهُ خَائِبَاً ” » ..
مفاجأة مِن العيار الثقيل اصابت أذنه لما سمعَ .. فتنفس بصوت عال مسموع أمامها ..
ثم نظر إليها راغباً في التوضيح..
ثم قال:
.. « „ ده أنا مسافر إلىٰ ليبيا.. وهي ليبيا ” » .. - وابتسم ابتسامة بلهاء - ..
وقال :
.. « „ يا حَاجَّه .. هي ليبيا فيها نسوان.. دول عاملين زي غفر العمدة بــ بلطو الدورية أو حرس السواحل فوق الإبل والجِمال في الصحراءالغربية .. وڪمان رجالتهم بيجوا عندنا علشان يأخذوا بناتنا.. وإللي موش نافع لكن عاوز بيروح شارع الهرم! .. ” » ..
تڪلمت معه أمه بجدية وإنفعال قائلة بنبرة حادة:
.. « „ النسوان .. نسوان .. يا فصيح (!).. نسوان في الهند .. أو في السند .. نسوان في الصين .. ولو رجليها لڪعبيها مغروزة في الطين .. في اليابان .. في باڪستان .. النسوان نسوان .. يا أبو سلسلة ذهب علىٰ قلبه .. وفاتح صدر القميص للبنات إِلْحلوين ”
ثم تنفستْ هي الآخرىٰ بصوت عال مسموع قائلة له :
.. « „ وأنا خائفة عليك .. إنت حبيب روحي .. وروح قلبي وابني الوحيد .. خايفه عليك! .. ” » ..
ثم بدأت دمعات حارة تسيل علىٰ خدها الرقيق .. ثم قالت :
.. « „ تلهفك واحدة مِن إياهم .. ” » ..
وأرادت أن تنبهه .. فقالت وهي تحتضنه :
.. « „ إنتَ متعرفهومش .. ” » ..
فقال ببراءة الأطفال :
„ هُمَّ مييين(!؟) ”
والتعبير الأخير واضح تماماً :
« الخوف » علىٰ وليدها الوحيد .. وهو صار رجلاً .. شاباً .. وهذا مفهوم .. فما عاد صبي العائلة .. غلام مدلل الحريم أو طفل ونيس النساء الجالس فوق حِجْر خالته أو على ڪتف عمته أو يلعب بين أَرْجُل زوجات أعمامه أو أخواله .. وما عاد حبيس المرأتين .. وقد لاحظت ميلَه الواضح للبنات!
ولڪن الجملة الأولىٰ .. المقطع الأول طبعاً يفرق عنده ڪثيراً.. فليس عنده ڪما يقولون جهلة الذڪور :
« „ ڪل القطط رمادية اللون في الظلام ” » [(5)]
وڪي لا نعيب علىٰ أحد فــ حقيقة الأمر .. فــ المسألة .. مسألة أذواق .. وميول ..
وبالقطع فـ أمه تعلم الڪثير عن قطط الظلام وحتىٰ قطط بداية النهار ووسط النهار وقطط العصر وقبل أو بعد الغروب والفجر وقطط الليل : بحڪم سنها ؛ وبحڪم تجارب الأخرين ؛ وما يبلغ مسمعها؛ وما ترىٰ مِن أحداث وتعلم من مواقف! وافلام الشاشة الفضية المِصرية ! .. وبالطبع افلام الڪاريوڪا .. الست تحية .. وافلام هند رستم .. مارلين مونرو الشرق ..
وهي بالقطع تعلم الڪثير من الحڪايات والقصص عن النساء ؛ ثم قالت :
.. « „ وأنا بالتأڪيد أعلم أن :
« „ كَيْدَهُنَّ عَظِيم ” » [(6)] ..
وتعلم بالتفصيل المريح والممل .. قصة دخول حوا .. وهي - الست حواء - جارة بالقرب من ورشة أخيها وڪيف دخلت واسحَبت إلىٰ بيت العائلة وقولها لأمها - جدة „ رفيقي ” .-. أنها ؛ أي حواء هذه :
« „ تحب يوسف - ابنها - أڪثر منها ” » أي مِن أمه!
وهي جملة لم تفهم علىٰ مستوىٰ العائلة ..
إلىٰ أن قال يوسف - خاله - :
« „ أنني لا أخاف مِن عشرة رجال مجتمعين .. ولڪنني أخاف منها ” ». وقصد حواء .. الجارة ..
وحوا هذه .. نعم .. ڪما وصفها „ رفيقي ” تملك مواصفات الجمال .. فهي من بنات الشوام .. قيل أنها من جبل لبنان .. شقراء الشعر .. بيضاء البشرة . بيد أنها قصيرة جداً فهي أقرب إلىٰ الأرض مِن أن تراها العين .. وڪما ڪانوا يقولون زوجات أخواله :
„ دمها واقف ” ..
„ دمها بارد ”..
„ ما فيهاش ريحة الأنوثة ”
ولا يدري „ رفيقي ” .. أهذا غيرة نساء من بعضهن البعض أم أنها حقيقة في عيون نساء!!..
لا أحد يعلم ما مدىٰ العلاقة بين يوسف - الخال - وبين تلك المرأة .. فهي تڪبره في السن بڪثير .. ومتزوجة .. ولها أولاد بالقرب مِن سن يوسف نفسه !.
لڪن ما هي حقيقة العلاقة بين يوسف - الخال - وبين تلك الجارة - حواء - والتي تڪبره في السن .. وهي اقرب ما تڪون من حيث سنها إلىٰ سن أمه أو خالته الڪبيرة أو أڪبر عماته!
ولعل هذا الغموض في تلك الرواية عن حواء .. الجارة قد يفسر قول أم „ رفيقي ” إن
« „ كَيْدَهُنَّ عَظِيم ” » [(6)]
.. ولم يتمڪن أحد مِن فك رموز تلك العلاقة !
ما يهم أن هذه الجملة :
« „ مَن زَنا في غُربَتِهِ أرجعَهُ اللهُ خَائِبَاً ” » .[(7)].
احتسبها رفيقي أنها حديث شريف ! فامتثلها في وجوده الطويل في بلاد الغربة وعلىٰ أرض الغرب .. بلاد الحرية الشخصية !..
ثم أردف قائلاً :
.. « „ فما حال أبناء التجمعات الإسلامية في بلاد الغرب ؛ خاصة الجيل الثاني الذي وُلد وتربىٰ هناك .. والجيل الثالث ؛ والجيل الرابع الذي علىٰ وشك القدوم إلىٰ الدنيا .. أو أبناء الإنترنت المفتوح علىٰ البحري في بلاد العرب والعجم .. بلا رقيب أو حسيب! ” » ..
سؤالٌ ألجمنا .. فلم نستطع أن نڪمل الحديث .. ولم نتمڪن من نوم هنيئ تلك الليلة(!)..


* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ملاحظة :
كــ كاتب لـ هذه الرواية ونقلا لأحداثها من „ رفيقي ” .. اضطررت لأستحداث حواشٍ اسفل الصفحة لتعريف القارئــ(ــة) الكريمـ(ـة) بما قصد وحتىٰ لا يختلط الحابل بالنابل!.. فقد اتضح كثيراً أن العامة تستخدم جمل تنسب خطأ إلى سُنَّة نبي الإسلام أو تنطق بخلاف موضعها الصحيح من الكتاب!.
[(1)] ( لا يَقَعَنَّ أحدُكم على امرأتِه كما تَقَعُ البَهيمةُ .. وليكنْ بينهما رسولٌ ) ، قيل : وما الرسولُ ؟ ، قال : ( القُبْلةُ .. والكَلامُ ) .
قال الحافظ العراقي -رحمه الله- :" رواه أبو منصور الديلمي في " مسند الفردوس " من حديث أنس، وهو منڪر ."
[انظر: " إحياء علوم الدين؛ لأبي حامد الغزالي، ومعه تخريج الحافظ العراقي " ( 2 / 50 ) .
[(2)] حديث : « „ الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ” » [أخرجه البخاري ومسلم].. أي بـ :" إلْحاقِ الوَلَدِ بالفِراشِ الشَّرعيِّ.". وفڪرة "مدرسة الأزواج" أو محاضرات "أحكام عشرة النساء" أو « النظام الإجتماعي في الإسلام » وهذه وإن ڪانت متقاربة في الموضوع ولڪنها تحتاج لمعرفة أدلتها التفصيلية من الڪتاب الڪريم والسنة المطهرة النبوية ثم تقدم ڪدروس خاصة وأبحاث مڪثفة .. فنظام الإسلام الإجتماعي يشمل أحكام الخطبة وما يسمح لرؤيته من المرأة التي يرغب الزواج منها وأحكام المهر والدخول والزواج والعشرة والحمل والنفاس وأحكام الحيض والنفاس والرضاعة والنفقة والطلاق والميراث.. وما شابه!
.. وهذه : رُوَايَّةُ « „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ” ».رواية .. قصة .. تروي أحداثا فلا يتعرض ڪاتبها لأبحاث فقهية بل يڪتفي بالإستدلال بموضع النص!.. وحيثيات السرد الروائي والبناء القصصي حين يرد النص النبوي الشريف؛ وايضا الايات بعدة صيغ تحتاج لدراسة شرعية وفقهية وإنزالها على الواقع المعاش اليوم! وهذا مجالها دروس المساجد!.
[(3)] [انظر : الأحاديث الطوال للطبراني حديث مازن بن الغضوبة : فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "اللَّهُمَّ بَدِّلْهُ بِالطَّرَبِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ ، وَبِالْحَرَامِ الْحَلالَ ، وَبِالْعُهْرِ عِفَّةَ الْفَرْجِ ، وَبِالْخَمْرِ رِيَاءً لا إِثْمَ فِيهِ ، وَائْتِهِ بِالْحَيَاءِ ، وَهَبْ لَهُ وَلَدًا " ".ويوجد راويان في هذا الحديث اتهما بالكذب . وذكره صاحب : (النهاية في غريب الحديث والأثر؛ ابن الأثير، أبوالسعادات؛ دون تخريخ أو تعليق. ). [الغريب والمعاجم ولغة الفقه؛ النهاية في غريب الحديث والأثر [ج: 3 ( ص: 326) ] .
[(4)] انظر صحيح البخاري .
[(5)] مَثَلٌ فيتناميٌّ ..
وقد قرأتُ في آحدىٰ حدائق مدينة جراتس المشهورة علىٰ حائط قديم اراد أن ينهدم هذه الجملة : « „ فِي اللَّيْلِ كُلُّ الْقِطَطِ رَمَادِيَّةٌ. ” ».
” In der Nacht sind alle Katzen grau. „
[(6)] جاء النص في القرآن المجيد بصيغة :
- {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِين}[يوسف:33]
- {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم}[يوسف:34]
- {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيم}[يوسف:50]
و - {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيم}[يوسف:28]
وقد مزجت لفظة من آية مع لفظة آخرىٰ من آية فنطقت بما قالته في موضع الاستشهاد!
فقالت:" كَيْدِهِنَّ .. عَظِيم"
[(7)] تُردد العامة مقولة تنسبها إلى رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم- إذ قيل فيها: (من زنى في غربته لن يعود سالماً .. وإن عاد سالما لن يعود غانماً) .. وجاء بصيغة : (مَن زنى في غربته لا رجع سالماً ولا غانماً) . وقد ذكر علي القاري في كتابه "المصنوع" حديثاً بلفظ: " من عصى الله في غربته رده الله خائباً ". وقال: لا يعرف له أصل. [" الأسرار المرفوعة " (ص/354) ، "كشف الخفاء" (ص/189) ] . ومعلوم أن الزنا من كبائر الذنوب وأقبحها في أي مكان كان، قال الله تعالى : {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] . والنص القرآني يتحدث عن الأقتراب من مقدماته وليس الفعل نفسه ؛ وهذا صيغة من صيغ تشديد التحريم.
-*/*-
:" وَرَقَةُ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ".
[(٢)] الجزء الثاني : « القصة بدأت »
﴿ رُوَايَّةُ : « „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ” ».﴾
[ 45 ] « غربة »
‏السبت‏، 25‏ رمضان‏، 1444هــ ~ الموافق: 13 أبريل 2023م
 

[ 42 ] « القداس »

ذهب „ رفيقي ” إلىٰ ڪنيسة القرية النموذجية بمرافقة السيدة « „ سيلفيا ” » صباح الأحد وهو يرتدي بدلة صيفية ماركة „HUGO BOSS“ ، فلقد تعلم مِن « رجاله » .. أساتذته .. الذين تخرج علىٰ أيديهم في مدرسة الحياة مِن ضمن ما تعلم :
ماذا ينبغي له أن يرتدي! ،
وڪيف يرتدي! ،
وما لا يصح أن يلبسه!
وڪيف يربط رابطة عنقه بشڪل مميز يظهره أنه « رجل » مِن طراز خاص! .
إذ ينبغي أن تتناسب قطع الملابس مع بعضها البعض .. فــ لون القميص يجب أن يناسب لون البدلة .. وڪذلك رابطة العنق .. شڪلها ولونها يناسبهما : القميص والبدلة أو أقل شئ الجاڪت..
وهل البدلة : صباحية نهارية للتنزه والفسحة أم لزيارة خاصة لعائلة أو مسؤول ما .. أم مسائية ليلية لحفلات بعينها ڪحفل عشاء أو حفل تڪريم شخص ما أو لقاء مع ڪبار القوم ونخبة المجتمع أو حفل ليلة زفاف أحد الأصدقاء أو أبناء أحد المعارف ..
ولون الحذاء ينبغي أن يوافق إجمالي الهندام ..
وكان يفضل „ رفيقي ” نوع معين من الأحذية يطلق عليها بــ : « رقبة » تعلو قليلا ساقه وتغطي جزءا من عنق الشراب..
وقد قرأ ذات مرة في جريدة الأهرام الدولية والتي تصدر من قاهرة المعز لدين الله الفاطمي لـ أحد أعرق ڪبار رجال الدبلوماسية المِصرية .. قرأ سلسلة مقالات تدور حول : كيف يكون الدبلوماسي ؛ خاصة مَن يمثل بلاده وحڪومتها في بلاد الغرب أو الشرق .. ڪيف يرتدي ولون هندامه ؛ حتىٰ الشراب ولمعان ونظافه حذاءه .. ڪيف يتكلم !.. ڪيف يتحدث مع امرأة ذات مرڪز في دولتها .. وڪيف يتحرك ويمشي وينتقل من مڪان إلى آخر .. وهڪذا .. واستفاد من تلك المقالات ڪثيراً ..
**
„ رفيقي ” حَيّى السيدة « „ سيلفيا ” » فقد وجدها بعد تناول وجبة الفطور واقفة عند الباب العمومي لمصحتهما .. وسألها :
" أين ستذهبين ؟ " ،
فأجابت :
" سأذهب مع " ماريا " إلىٰ الڪنيسة لأداء القداس .. اليوم هو الأحد " ،
.. ثم وجهت له سؤالا ؛ وڪأنها أدرڪت أنه لن يذهب لڪنيسة النصارىٰ لـ آداء الصلاة ..
وغالباً -العوام مِن الطرفين : المسلمين والنصارىٰ وبقية أتباع دين ما .. لا يعلمون ڪثيرا أو قليلاً عن دين بعضهم البعض إلا ما يُرىٰ في الأفلام والمسلسلات وما تذكره الصحف السيارة - فسألت بصوت غير مسموع:
" هل تأتي معنا للڪنيسة للصلاة !؟" ،
أجابها بـ:
" نعم .. ارافقڪما لمشاهدة ڪيف تصلون !" ،
.. فهي- « „ سيلفيا ” » قد علمت مِن نزلاء مصحة التأهيل البدني والنفسي - إذ أنهم يخبرون ويتحدثون عن بعضهم البعض - أنه لديه معلومات جيدة عن الأديان والغرب ويحسن النقاش ؛ ويتمكن مِن إسكات مَن يناقشه بأدلة وبراهين وحجج وبتواريخ وذكر أسماء شخصيات لها علاقة بموضوع البحث أو المناقشة مع أدب جم في الحوار مع مَن يعارضه في الرأي ؛ وقد جرت عدة مشادات ؛ وغالباً ما يغضب الآخر ويتوقف البحث أو الحديث لقلة توفر معلومات صحيحة يملكها المحاور مع „ رفيقي ” ..
ويحدث هذا دائماً علىٰ مائدة تناول الوجبات الغذائية وقد يڪمل الحديث إثناء السير في ردهات المنتجع أو إثناء انتظار نوع العلاج المذڪور في كراسة المريض!
إذاً .. ذهب الثلاثة وبعض النزلاء في الطريق المؤدي إلىٰ ڪنيسة القرية ..
بحقٍ .. الڪنيسة ڪانت جميلة بــ : تماثيلها واصنامها وزخرفتها ولوحات زيتية رائعة تعبر عن ما حدث في طريق آلام ابن الآله الأربعة عشرة وبقية الألواح للقديسين والشهداء والتصاوير .. وزواياها وجدرانها وألوان زجاج نوافذها الزاهية وأرڪانها .. فهي قد بُنيت منذ أڪثر من 600 عام..
وهذا ما ابدع فيه رجال الڪنيسة ورساميها مِن إنزال ما في الڪتاب المقدس من جمل ورموز لواقع مشاهد محسوس .. وحتىٰ إحسان مسألة تصوير الآله وأم ابن الآله وابنه وأن الروح القدس ظهر في شڪل حمامة!.. مما قد يعارض دين آخر أو يرفضه تماماً.. وهنا تأتي قضية عالية المقام وهي مقارنة الأديان عند أهل العلم ورجال الدين؛ وليس عند الأتباع!
-*-
وقبل أن يدخلا - „ رفيقي ” و « „ سيلفيا ” » - بدء -ڪعادة- بالتقدم خطوة أمامهما ليهئى لهما فتح الباب ، فهو دائما حين يرافق امرأة يخصها بهذه الخصوصية ، يتقدم خطوة أمامها ليفتح الباب لها ، وڪأنه من هؤلاء الذين يحافظون علىٰ التقاليد الملڪية والأعراف الإمبراطورية ..
وهذا التصرف يعجب الڪثير من النساء .. بل ڪل النساء ..
وقد غابت „ ماريا ” عن الأنظار .. ڪأنها فص ملح وذاب..
فلم يجدا „ سيلفيا .. وفيقي ” مڪاناً للجلوس إلا في المقاعد الخلفية ..
وڪانت المفاجأة !
-*/*-
« „ سلام الله عليك ! ” »
لقد وجد صاحبة الشعر الذهبي والوشاح الغامق الرصاصي ؛ الذي يميل قليلاً إلىٰ السواد ..
جالسة في آحدىٰ مقاعد الصفوف الخلفية .. وهي لم تلاحظه!
فهمَّ أن يجلس بجوارها .. غير أنه لم يجد هناك مقعداً خالياً ..
فجلس في الصف الذي خلفها مباشرة ..
وغفل تماماً أو نسيىٰ فعلاً أنه يجاور " سيلفيا " ..
وڪنا تقريباً في نهاية من وقت آداء القُداس الصباحي.. وقبل المناولة..
وجرت العادة أنه في نهاية القُداس يسلم المصلون بعضهم علىٰ بعض.. قائلين:
« „ سلام الله عليك ! ” »
وظنَّ أنها -صاحبة الوشاح الأسود - ستلتفت خلفها .. وتقول له ذلك .. فهو قد جلس بالعمد خلفها تماماً .. أقرب ما تڪون أرنبة أنفه إلىٰ أطراف شعرها الذهبي .. وقد غطت ڪتفيها بوشاحها الغامق ولفته حول رقبتها وأسدلته علىٰ صدرها .. وڪأنه يقول لنفسه :
" ياليتني ذلك الوشاح!"..
ڪانت بجواره " سيلفيا " .. لم يفڪر فيها قليلاً بل نساها تماماً ..
فقد ڪان شعاع الشعر الذهبي يضئ المڪان حوله ، ولم تلتفت يسرة أو يمناً حتىٰ انتهى القداس ، خرج الناس ، وخرج مرافقاً " سيلفيا " ، لا يدري إلىٰ أين .. لڪنه سار بعض خطوات خارج الڪنيسة العتيقة معهما - :" ماريا " ؛ و "سيلفيا " - ثم قالت سيلفيا:
" سنذهب إلىٰ آحدىٰ المقاهي لتناول ڪوباً مِن الڪاڪاو الساخن ، فإن هذا الصباح بارد قليلاً ، ثم وجهت إليه سؤالاً:
" هل ستأتي معنا " ،
أجابها علىٰ الفور:
" ڪلا ، لأ .. لأ .. سأتمشىٰ قليلا .. عذراً .. أذهبا أنتما !" ،
.. خطوات قليلة بعدتوديعهما و فراقهما ومن علىٰ بُعد ..
ماذا يرىٰ !؟،
مَن أمامه !؟ ،
صاحبة الشعر الذهبي والوشاح الأسود تجلس بمفردها علىٰ مقعد عمومي بالقرب مِن منصة الموسيقىٰ الڪلاسيڪية وهي مغطاة لأعضاءها .. وأصوات آلآتها تصل إلىٰ مسمعه ..
قدرٌ !
وما أروع تقديرات القدر وإحسان ترتيبه للأحداث وإبداع تخريج المواقف .. وعلىٰ المرء أن يحسن توظيف حيثيات ذلك القدر ..
.. وڪأنه مشهد مِن فيلم أمريڪي الإنتاج .. فرنسي الإخراج .. بطلته „Sisi“ النمساوية " رومي شنيدر " .. وفتىٰ الشاشة الإنجليزي "شون كونري" حين وڪما مثل بإتقان دور العميل السري " جيمس بوند " .. أو المِصري الوسيم " عمر الشريف " في فيلم " د. زيفاجو" ..
وللمصادفة الميمونة فليلة هذا اليوم رأىٰ فيلماً لـ " كيلارك جيبل " والفاتنة الإيطالية " صوفيا لورين" أحداثه تمت في إيطاليا علىٰ الساحل الشمالي للبحيرة المتوسطية ، وأعجبه الفيلم ڪثيراً ..
تحرك - „ رفيقي ” - بنشاط إليها وعلىٰ عجلة مِن أمره وڪانت جالسة علىٰ طرف المقعد المبلل مِن مياة المطر .. فقد أمطرت إثناء تواجدهما داخل الڪنيسة ، والطقس يميل إلىٰ البرودة قليلاً ، أقترب بهدوء مِن مقعدها ..
وقد ڪانت غارقة في سماع الموسيقىٰ العازفة فاغمضت عينيها .. وڪأنها لا تشعر بمَن حولها .. ولعلها ذهبت بعيداً .. وڪان يتمنىٰ أن يذهب معها .. وفق خيالها إلى أين ما تريد أن تذهب!
شعبٌ يعشق الموسيقىٰ ، فالياباني يأتي لتعلم نوتة الموسيقىٰ هنا ، فهم بحق أحفاد موتسارت ، إنها الفرصة المواتية الوحيدة .. إنها بمفردها يستطيع أن يتحدث معها ، يستطيع أن يتڪلم معها يبادلها أقل شئ التحية والسلام ..
سألها بصوت هادئ .. ڪأنه يتڪلم من أعماقه السحيقة :
" هل هذا المڪان خال؟" ،
وأشار لما يجاورها ،
ثم أڪمل :
" هل أستطيع أن اجلس عليه !؟" ،
أجابته .. وڪأنها لم تتوقع أن يتحدث معها أحد .. خاصة هذا الشخص .. فلعلها قد لاحظت اهتماماً ما بها فأجابته بـ :
" نعم " .
يا الله! ما هذا الصوت الملآئڪي الذي يسمعه من فوق سبع سموات طباقا .. ويصدر مِن فوق شجرة المنتهىٰ بالقرب مِن البيت المعمور ..
ثم سارعت المرأة ذات الصوت الملآئڪي لتساعد ابن الإنسان في تجفيف بقية المقعد مِن الأمطار ببقايا جريدة التاج الحديثة „Die neu Krone“ ، وجلس بالقرب منها .. فبقية المقعد مبتل بماء المطر وقد بدأت أشعة الشمس في التسلل من بين السحب الرماديَّة .. والموسيقىٰ تعزف آحدىٰ المقطوعات الڪلاسيڪية ، وأخذ يتنفس الصعداء ..
أخيراً هو بجوارها ، جنبها ، يحدثها ويسمع صوتها ، تنساب حروف ڪلماتها إلىٰ طبلة أذنه ڪانسياب الموسيقى الهادئة الرائعة عبر الأثير وڪانسياب الماء الزلال مِن قارورة مثلجة لمتعطشٍ في قيظ الصحراء ؛ رنةُ مخارج ما تنطقه تملأ المڪان من حوله موسيقىٰ حانية دافئة .. إذ أن ڪل ما حوله قد غاب .. بل أندثر . ولم يتبقَ إلا صوتها الملآئڪي بنبرة أقرب إلىٰ الحزن الدفين وبحة من حنجرتها..
هي جلست بجواره ، إنها الآن بجواره ، الموسيقىٰ لعبت دوراً مهماً في صناعة الحدث الأول بينهما ، أتقن القدر إخراج اللحظة الأولىٰ في اللقاء .. وڪما يقولون : « „ شڪراً للرب الذي في السماء ” » .. حتىٰ وإن ڪان القائل ليس مِن زمرة المؤمنين.. ولڪنها عادة اللسان!..
الموسيقىٰ قد ڪانت مدخلا جيدا لبدء الحديث معها .. آلات العزف الڪلاسيڪية التقليدية في وسط أوروبا ساعدته ڪثيرا في إستحداث جمل وخلق ڪلمات تناسبها وإبداع تعبيرات صوتية تخصها هي فقط ..
اقتربا .. وهما علىٰ مقعدهما الحڪومي .. مجلسهما الأول علىٰ مقعدهما العمومي .. إذ أن بقية المقعد الذي يسع علىٰ الأقل خمسة أشخاص مبتل تماماً .. وهي جففته بورق جرائد طبعة الأحد الشبة مجانية ، وبدأت أشعة الشمس تظهر ويصحو الجو ، و „ رفيقي ” مِن مَن يحسن تطويع المناسبات وتوفيق المواقف لموضوع يتحدث فيه أو عنه ..
قال لها:
" ما أجمل هذه الموسيقىٰ التي تعبر عن هذه اللحظة الرائعة !"
بادلت ڪلماته بڪلمات أجمل منها ، ثم أردف مسرعاً ، فهو يريد أن يحوط المڪان والإنسان والزمان بقدر إمڪانياته الإبداعية وقدراته الشخصية الذهنية ليخصها وحدها .. يريد أن يحصرها بين ڪلماته وبين تعبيراته وبين اقواس جمله ، فلا تفارقه لحظة من الزمان فتنعس فلا تسمع ڪلماته ولا تغفل عما يقول فيغيب عنها احساسه ..
فقال لها :
" اشعر أن العازف يشعر بحالي .. فيعزف فقط لنا .. وحدنا .. لي .. ولكِ! ، إنهم يعزفون مقاطع تروق لكِ ، ڪما لاحظتُ .. أليس ڪذلك(!؟) .. " ثم أكمل :
" خاصةً آلة الڪمنجة ، إنها تعبر عن مڪنون ما بداخل النفس البشرية ! أصحيح ما أقول!؟"
إنه - „ رفيقي ” - يحوّل اللحظة الواقعية لرومانسيته الخيالية الخاصة به ، يحول الزمان وأدوات المڪان لقطع يحرڪها ڪما يريد هو وڪما هو يهوىٰ .. ڪأنه يملڪها ، ڪان يطلق ڪلمات متتالية ، جمل مترادفة ؛ مقاطع متوالية .. فقط يترك مساحة زمنية محدودة لإلتقاط أنفاسه ويجذب أذنها .. ليعود مسرعا للحديث ويوصل جملته الأولىٰ بالثانية ڪقطعٍ من العُقد الثمين يريد أن لا تنفصم حباته أو تتناثر بعيدا عنه أو تنفرط حبات العقد من يده ، هي تسمع ويرىٰ في عينيها هدوء المستمع وتجاوب المقتنع ، فلم يبخل عليها في الحديث ، وڪما قالت ذات مرة جدته لأبيه :
" الڪلام لا يدفع عليه جمرك " .
ڪان ڪلامه مفيداً إذ يعبر في الدرجة الأولىٰ عن حالة ما يريد أن يوصلها لمستمعته السيدة ذات الوشاح الأسود والشعر الذهبي ، هذه الحالة تنم عن أنه يريدها .. وبأدب جم يبلغها هذا الشعور الرقيق!.
تحدثا معا طويلاً ، حتىٰ حان وقت الغذاء ، المواعيد في منتجعه مقدسة ، دقائق تأخير ويبحثون عنك في ڪل مڪان ، فأنت بين أيدي أمينة تحافظ عليك وعلىٰ صحتك .. يتبقىٰ عليك أن تبحث عن " ظلٍ لامرأة تروق لك" يحافظ علىٰ توازنك النفسي الداخلي لتشعر بفائدة العلاج في منتجعك الصحي .
بدءا في التحرك إلىٰ منتجعهما بخطوات بطيئة ڪأنهما لا يريدان أن تنتهي المسافة بين المقعد العمومي ؛ وڪأنه وضع لهما خصيصاً والذي نُصِب أمام المنصة الموسيقية .. وبين باب الصالة الڪبرىٰ للمطعم .. لا يريد أن تطوي اقدامه الطريق .. يريد صراطا مستقيماً طويلاً يوصله إلىٰ جنة الفردوس ..
فما أغرب حال المعجب المحب !؟.
وما أروع حال العاشق لمَن يرغب!
وحبُّ الشئ يعمي ويصم!
هما - „ فيقي ” و « „ صاحبة الشعر الذهبي والوشاح الأسود ” » - في يوم الأحد حيث لا يوجد معالجة طبية أو علاج طبيعي ، يوم راحة .. أقتربا مِن الباب العمومي للمصحة .. وافترقا بتحية طيبة وحديث عيون يخبر بأڪثر مما تستطع تحمله الڪلمات من معان وقواميس اللُغة من تعبيرات ومعاجمها من تصورات ، وقبل أن تضيع الفرصة سألها :
" ماذا ستفعلين بعد تناول طعام الغذاء !؟ ،
أجابت:
" سأذهب إلىٰ الحمام العمومي ..!"..
وڪأن الفڪرة راقت لها فقالت له :
" أتأتي معي!؟" ،
قال لها مسرعاً :
"بكل سرور وترحاب ، أريد أن ارافقك إلىٰ مسبحك !"
.. تناول „ رفيقي ” الغذاء بسرعة مدهشة ، وهو الذي أعتاد أن يتناوله ببطئ شديد ، وظهرت عليه علامات فرح غير مدرڪة لناظره وتعبيرات سرور غير مفهومة لمَن يجلس بجواره علىٰ مائدة الطعام ، فهو رابعهم ، استأذن .. وڪأنهم يريدون أن يسألوه:
" إلىٰ أين أنتَ ذاهب هڪذا اليوم سريعاً !؟ " .
تقابلا بعد الواحدة ظهراً ، وسألها ڪأنه جاء إلىٰ الدنيا للتو:
" إلىٰ أين سأذهب معك ، أنا لا أدري أي حمام سباحة تقصدين !؟"
أجابته :" تعال .. ولا تخف سأوريك الطريق!".
.. ذهبا ، لاحظ عليها سعادة ما -أيضاً غير مفهومة- وهي تسير بجانبه ..
سألها :
" هل المسافة بعيدة سيراً علىٰ الأقدام "،
قالت :
"ڪلا ، بضع دقائق وسنڪون معا هناك " ،
وصلا إلىٰ حمام السباحة ، وعلىٰ بابه قالت له :
" إنني أملك ڪارتة لمدة إقامتي هنا ، وعليك أن تذهب إلىٰ شباك التذاڪر لتبتاع تذڪرة دخول لكَ وحدك .. فقط .. دخول حمام السباحة ليس أڪثر من ذلك!" .
دخلا معاً وقالت:
" سأذهب لتغيير ملابسي في قسم النساء ، ثوان وسأڪون عندك ، لا تقلق! ".
تحرڪا سوياً في إتجاه حمام السباحة ، اختارا مڪاناً بعيداً قليلا عن جمهور الحمام ، تمددت أمامه بعودها الطويل وفرعها الرشيق مرتديةً قطعةَ السباحة الواحدة ، أراد بنظرة واحدة أن يستوعب حدود هذا الڪيان الجميل الرائع .. الجديد عليه ..
بدءَ حديثه ڪاذباً - وهذه جِبلة مرڪوزة في خُلق الرجال .. ورغبة مدفونة تريد سماعها كل النساء - قال لها :
" هذه هي المرة الأولىٰ -في عمري- التي أجاور امرأة هڪذا جميلة مثلك ، أريد أن أنظر إليك ملياً "..
ثم توقف قليلاً وأڪمل :
" أريد أن أرىٰ : ڪم أنت جميلة !" .
ابتسمت ولم تقل شيئاً .
جلسا دقائق لم يتڪلما ..
ثم قالت له :
" هيا ، سنذهب إلىٰ الماء ، أريد أن أستحم بجواركَ " .
خطوة بجوار خطوة .. يسيرا معا ، يرافقها .. وهو „ رفيقي ” يفڪر سريعاً ما الكلمات القادمات لإسماعها اياها !
.. لم يتجرأ بعد .. أن يلمس يدها أو موضع ما مِن جسدها .. فقط قال لها بعد أن غيرت ملابسها :
" حمالة المايوة تحتاج أن أعدلها مِن الخلف .. ! .. هل تسمحين لي !؟ ،
.. الڪذبة الثانية ، أو بتعبير أدق المحاولة الثانية لإزالة الحواجز وفتح الحدود وهدم الموانع وڪسر السدود ، فقالت له :
" أرجوك ، المايوة .. حسنّه لي .. أصلحه ڪما تريد ، فقد ڪنت مستعجلة في إرتداءه ولم أنتبه لذلك ، أمنظره سئ !؟ " .
قال:
" لا ، أبداً ، أي شئ ترتدينه سيڪون بالقطع جميلاً " ،
وبدءَ بالڪذبة الثالثة لڪنها مڪشوفة مفضوحة ..
قال مازحاً :" أنا لا أحسن السباحة .. فارجوكِ ابقِ بالقرب مني .. بجواري .. فأنا أخشىٰ علىٰ نفسي من الغرق !! "..
وفضح ڪذبه :" خاصةً في عيونك الزرقاء! " ،
أجابت بسرعة متناهية :
" لا أظن أنك لا تحسن فن العوم !!"
فرد : " بل هي الحقيقة المخجلة لمَن هو في سني !.. والحقيقة العارية فلا أجد ما اغطيها به!" ،
وردد ثانيةً :" ابقِ بجواري " ، أخشىٰ أن أغرق في بحر عينيك ، فضحڪت وعلا صوتها ، وهو علىٰ ما يبدو الوحيد ممن يحملون بشرة داڪنة بعض الشئ .. فڪان ينظر إليه ڪل الرجال والنساء وڪأنهم جميعاً يسألون :
" مَن هذا - الأجنبي ذو الملامح المشرقية - الذي يرافق تلك المرأة الأوروبية ذات الشعر الذهبي والبشرة البيضاء.. ناصعة البياض!؟" .

[ 43 ] « عامل الحمام »
غطس تحت الماء وأطال النفس تحت الماء أبتعد عنها قدراً ڪافياً ثم عاد إليها ، ڪأنه لا يعرفها ، محيِّها بإبتسامة عريضة ، قائلاً لها :
" سيدتي.. إنني مِن عمال هذا المسبح العمومي ، وهذا هو يومي الأول في الدوام ، وطبيعة عملي تلزمني أن ارافق النساء الجميلات .. فأنتِ الآن بين يديَّ .. أقوم برعايتك وأفعل ڪل ما تريدين مني ، واقدم خدمات المسبح ڪاملة بالمجان .."..
ثم اردف قائلا :
" هڪذا هو طبيعة العقد بيني وبين الإدارة " ..
فقالت له :
" شكراً جزيلا ، لا أريد مساعدة ، معي مرافق " ،
فقال ملحاً :
" ارجوكِ ، لا أريد أن أفصل مِن العمل ، حين أعود مرة ثانية إلىٰ مَن يَرأسني في مڪتب الإدارة .. وأقول له إن السيدة لا تريد خدماتي ، ارجوك ساعديني أن أحتفظ بوظيفتي ! "
فقالت -وڪأنها لم يرق لها هذه المزحة السخيفة- :
" لا يهمني ! "،
فأخذ مباشرة يشرح لها ما هي طبيعة عمله ، مبيناً لها أن مَن يرتدي مثل هذا المايوة الرجالي بهذا اللون " القرمزي " بهذين الخطين العريضين على الجانبين باللون " البيج الفاتح " وبثلاثة خطوط رفيعة تبدأ بالبني الغامق فالفاتح ثم اللون الأسود علىٰ الجانب ويحمل هذه الشارة „ONLINE“ فمن يحمل هذه الشارة علىٰ الجانب الأيسر من هذه القطعة فهو مِن مَن يعملون هنا ، لذلك لا يوجد الآن غيري في المسبح وهذه هي المرة الأولىٰ وإلا سأفصل مِن عملي ،
فتنهدت وقالت :
" حسناً ، ماذا تستطيع أن تقدم لي من خدمات "،
فقال لها :
" ڪل ما ترغبين ، سيدتي الجميلة .. كل ما ترغبين .. مثلا أقوم بتدليك ظهرك "..
ولم يڪمل ذڪر بقية أجزاء التدليك وأعضاء جسدها.. "..
ثم يقول :
" فالتدليك هنا بالمجان ، إنها خدمة جديدة مجانية ، ابتدعتها إدارة حمام السباحة "
فردت :
" هڪذا أمام الناس .. تدلك سيدة محترمة !!! "،
فرد مسرعاً :
" بالطبع تحت الماء لن يرانا أحد سأمد يدي في المناطق التي يجب عليَّ أن أدلڪها ولن ينتبه أحد "،
فقالت :
" ولڪــ .... ــن .." ،
وقبل أن تڪمل جملتها قال لها مسرعا :
" أترين هذا الرجل القادم علىٰ طرف الحمام الأيمن .. إنه رئيسي في العمل ويريد عن قرب أن يراقب عملي ليڪتب تقريراً عني يرفعه إلىٰ الإدارة ، أتسمحي الأن أن أمد يدي لأقوم بعملي " ،
فقالت له بأسرع من البرق :
" علىٰ رِسِلك ، مهلاً ، مهلاً .. أنا ما قلت أنني أريد التدليك اليوم ، أريد ربما شيئاً آخر "
فرد مسرعاً :
" علىٰ عيني .. طبعاً.. ڪل الخدمات اليوم بالمجان ، نحن نعمل علىٰ راحة الزبون ، أقصد ضيف المسبح ، ارجوك .. اترڪيني أزاول مهمتي .. أقصد مهنتي ، وسوف ترضين عن خدماتنا ".
نظرت إليه بتعجب وحيرة وقالت :
" أرجوك افتعل الجدية ! " ،
فرد بجدية :
" أرجوك دعيني أمارس مهنتي ، وإلا سافصل منها، وهذا لا يرضيك ، فأنا أحتاج لهذه الوظيفة ، وقد بحثت عنها ڪثيراً ، أيرضيك أن أڪون عاطلاً عن العمل !!".
بالطبع لم يستطع أن يقدم يدا أو رجلا ، ولڪنها بداية محاولة لفتح الحدود ، وڪسر الحواجز وإزالة العقبات من الطريق وهدم الموانع ومد الجسور ..
وبدايات : „ رفيقي ” دائما ملفتة للإنتباه ، بل جريئة أحياناً ڪثيرة ..
فقالت له :
" أريد أن يفصلوك من العمل ، فهذا العمل لا يناسبك ! " .
.. الشمس ڪانت ساطعة ودرجة الحرارة بالتأڪيد تتجاوز درجة الثلاثين ، ومع ذلك قالت له :
" الماء هنا بارد قليلاً فلنذهب إلىٰ الطرف الثاني من الحمام ، فهناك الماء أسخن قليلاً " ،
وڪأنها محاولة منها - الأنثىٰ - لفرملة عجلات سيارته المسرعة تجاهها ، غير أنه قال لها مڪملاً دوره التمثيلي :
" أين ما ذهبتِ -سيدتي- فأنا بحڪم وظيفتي سأتبعك ! ليس عندي عمل غيركِ أنتِ .. فقط أنا أقوم علىٰ راحتِكِ وأسهر علىٰ تقديم خدمات المسبح لكِ.. بالمجان !".
قالت مزمجرة :
" أَوْقِفْ ، أرجوك هذا الهراء ، أنا أريد أن تتحدث معي بجدية " ،
فقال :
" إذن أذهب إلىٰ رئيسي في العمل وأطلب منه أن يفصلني لأتفرغ لكِ وحدكِ " ،
فقالت:
" حسناً ، لا داعي للذهاب إليه ، فأنت مفصول مِن عملك علىٰ ڪل حال.. ومِن الأن! ".
ڪان هذا الحديث في الماء البارد ، وتحولا بعد ذلك إلىٰ الماء الساخن ، العلاقة بينهما بدأت تسخن قليلاً .. قليلاً ڪسخونة الماء وحرارة الطقس .
إنه يتذڪر نظراتها إليه عندما جلسا بالقرب مِن جدار حوض السباحة ..
ذهبا .. ومِن الخلف يندفع الماء الساخن الجديد ويتدفق بسرعة شديدة فيتحرك يميناً وشمالاً دون إرادته فيقترب منها ويبتعد عنها حسب دفق الماء ، يقترب من ملمس الحرير الطبيعي الذي أعتاده منذ نعومة أظافره من ملابس جدته لأبيه ، الصورة رويدا .. رويدا تقترب مِن ڪمالها ، إنها المرأة التي يريدها ، وصار يقدم اعتذاره مرة تلو الآخرىٰ ڪــ" جنتلمان " ،
فيقول :
" سيدتي .. ارجو أن تقبلِ عذري ، الماء هو الذي يدفعني إليكِ " ،
فلا ترد عليه ، غير أنها علىٰ أقل تقدير غير منزعجة مِن تحرڪه تجاهها ، وملامسته أياها .. وتعطلت بالفعل لغةُ الڪلام ووجدت لغة جديدة لغة مَن إبداعهما ، حروفها مِن ترڪيبة حوائجهما ڪبشر ، لغة أتت مِن أشجان دواخلهما ، ترجمت إلىٰ حروف خاصة ظهرت وڪُتبت علىٰ سطح قرنيتنا في العيون ، يقرأها من يستطع فك رموزها ، العين الواحدة تفضح دواخلنا .. بما بالك بمن يملك عينين !،
الرسالة الأولىٰ منها ڪانت " خذني بين يديكَ " .
هنا .. الخطأ في قراءة مثل هذه الرسائل المشفرة ، يوقع آحد الطرفين في مأزق قد لا تُحمد عقباه .
ذهبا معاً إلىٰ الطرف الثاني مِن الحمام وجلسا تحت الماء ، الماء يغطي النصف السفلي من الجسم تقريباً حتىٰ الصدر ، جلسا متجاوران على مقعد طويل من الرخام مثبت بجدار المسبح ، خلفهما حائط الحمام ، وأنبوب ضخم يضخ الماء ويدفعه بشدة ڪمساج ساخن داخل الحمام .. فڪان يترنح يمينا ويسرا حسب ما يدفعه الماء فيقترب من جسدها خاصة المنطقة السفلية فوق المقعد الرخامي المصبوب في حائط الحمام .. فيعتذر ..
وتقول له :
" لا داعي للإعتذار فأنت لا تقصد شيئا ، بل يدفعك الماء "،
وبعض لحظات قليلة من الحديث بشڪل عام سمع نداءً حاراً مِن أعماق النفس البشرية الساڪنة بين جوانبها ، إنها تريد أن يساعدها ،
لڪن ڪيف!؟ ،
رغبت أن يقف بجانبها ،
لڪن لماذا !؟
إنها تريد أن ترسل له رسالة خاصة له وحده ،
بدأ مشوار اللغة المشفرة .. مشوار الخصوصية !..
إنه يريد امرأةً خاصة ذات مواصفات خاصة ،
أرادَ أن يقول لها ڪلمات جديدة..
ڪلمات خاصة بها .. ولها !
ڪلمات تقال لها وحدها دون سواها من نساء العالمين!..
فهي لها الحق تماماً فيما تريد !..
ولها الحق تماما في ما يجب أن تسمعه من „ رفيقي ”
فهي بحق امرأةٌ بمواصفات خاصة .
بدأت رسائل العيون المشفرة تتوالىٰ وبشڪل سريع ڪالبرق ، لا يملك أن يلتقط أنفاسه بين رسالة وآخرىٰ ..
سيل من الرسائل المشفرة ، مَن يراهما يظن أنهما أستغنيا عن العالم الحاضر إلىٰ عالمٍ خاصٍ بهما فقط دون سواهما ،
وقد لاحظ بين الفينة والآخرىٰ أن نظرات الآخرين تنبأ عن هذه الحالة الخاصة بهما
ولعل البعض ينظر إليهما بغبطةٍ
أما البعض الآخر فبـ " حسد "
إنها حالة جميلة أن يرىٰ البشر إنسجام بين إثنين من البشر
ويلاحظ ڪهذا الإنسجام بين بقية ڪائنات المعمورة تلك الأرض المسڪونة
إنهما يضخان ڪميات هائلة مِن العواطف الدافئة في زمن تحولت فيه العاطفة إلىٰ سلعة يمڪن شراؤها من السوبر ماركت
زمن تجمدت العواطف في صندوق قديم مهمل بجوار عجلة الزمان السريعة وماڪينة الحياة الرأسمالية النفعية
اراد أن يضمها بين ذراعيه ويقول لها أنني الحامي لك ، وليس فقط المرافق ولڪن ليس بهذه السرعة وإن ڪنا نعيش في زمن نقل الرسائل القصيرة „SMS“ خلال أقل من لحظة قبل أن يرتد إليك طرفك ومِن قارة إلىٰ آخرىٰ
أفيصلح هذا أيضا مع العواطف !؟..
أم أنها تحتاج لوقت ڪاف حتىٰ تنمو فتنضج المشاعر ويتحقق مِن صدقها !!.
-*/*-
إنه يوم الأحد وتبدل الطقس بين المطر ڪخريف قادم وبين صيف قائظ ، وفترة ما بين الغذاء والعشاء ليست بالفسحة الڪافية لهما ، والعشاء يبدأ في تمام السادسة مساءً ، وبالقرب من الخامسة عصراً بدءا يتحرڪا من الحمام إلىٰ منزلهما ، فالمواعيد هنا مقدسة ولابد من الحفاظ عليها بڪل احترام
إذن حان موعد العودة ، فهل سيلحقه لقاء أو يتلوه موعد ، هذا ما سوف يظهر في طريق العودة .
ڪانت تسير أمامه ڪــ سيدةٍ مِن سيدات القصور الفاخرة ، ڪــ أميرةٍ من بنات الأمراء أو من سلالة ملوك أروبا الوسطىٰ أو مِن أميرات الجزيرة البريطانية أو آحدى بنات أميرات دول الخليج الست أو من قصر أمير المؤمنين المغربي .. وڪأنها في زيارة رسمية لدولة صديقة .. فــ فرشَ تحت قدميها السجاد الأحمر .. أو أتت من إمارة مجاورة لم تسمَ بعد ، أو ڪــ ملڪة متوجة علىٰ عرش القيصرية للتو ،
تسير أمامه ڪأنها صاحبة المقام العالي الرفيع ومالكة السمو والقدر العظيم .. وبمفردها أمام الرعية فيجب أن تڪون امرأة غير بقية النساء
وهو - „ رفيقي ” - معجب بهذا الطراز الخاص من نساء بنات حواء ، فڪما ڪانت حواء امرأة خاصة فقط لآدم ، فــ „ رفيقي ” يريدها ڪذلك ، وليس في هذا الأمر من عجب ، فهذه هي تربيته وهڪذا -مدلل جدته ومِن ثم أمه - عاش بين حريم العائلة .
-*/*-
سألها في طريق العودة :
"هل لديك بعض الوقت لي بعد الإنتهاء مِن تناول العشاء "
أجابت بابتسامة تدل علىٰ الإيجاب دون التلفظ بــ نعم صريحة أو الموافقة الواضحة !
فسُرَ ڪثيراً .. وڪاد يطاول السحاب فرحاً بيده ، ويرقض بين المروج الخضر مبتهجاَ ، تحرك ببطئ في الطريق فهو لا يريد أن تنتهي الطريق تحت أقدامهما ، إنه يريد أن يُحْڪِم شباك صيده ، ولا يرغب في فتقٍ بين ثنايا حبال الشِباك خوفاً من هروب الصيد الثمين ، إنه عقلية الرجل الأول ، الذي ما تمدن ڪثيراً بعد مرور أحقاب وأحقاب عليه وعاش في مدنية وحضارة ڪما هو منظور .
إذن اللقاء في السابعة والنصف مساءً بعد تناول وجبة العشاء ، أمام القاعة الڪبرىٰ بجوار مڪتب الإستقبال .
„ رفيقي ” يتعمد إختيار ملابسه ويتخيَّر البدل وفق المناسبات ، إنه اللقاء الرسمي الأول معها خارج المنتجع الصحي ، نبرة صوتها تملأ أرجاء المڪان حوله ، إنه مازال يسمع صوتها ، بعد أن تناول عشاءه اتجه إلىٰ مائدة طعامها التي تجلس أمامها وحياها تحيةً قصيرةً خاصة فقط لها دون بقية الحضور علىٰ نفس الطاولة ، وإن أماء برأسه إماءة خفيفة لمن جاورها ولڪن ليس بالتخصيص ڪما خصها
وهي لاحظت أنه يتعدىٰ الأعراف المعروفة والبروتوڪولات المتفق عليها والعادات الموروثة ويڪسر الحدود ويزيل السدود ويقلع الموانع ويمد الجسور ليسرع في العبور للطرف الآخر بسرعة الريح وسرعة البرق
ڪعادته لا يرىٰ أمامه سدوداً أو يجد في طريقه حواجز ، وڪانت تنبهه برقة متناهية حتىٰ لا يفهم أنه صد أو إمتناع ، بأن هناك عين تراقبهما بل عيون ، وهي لا تريد أن يفهم المراقب أڪثر مما هو متاح له أن يفهم ، فحتىٰ الأن بينهما " علاقة مجاورة بين مريض في منتجع صحي مع مريض آخر "
علاقة عادية ليس فيها أي خصوصية .
نعم .. قابلها في الصالة الڪبرىٰ غير أنها حضرت قبله بثوانِ .. واعتذر عن أنها تنتظره فما قصد التأخير ؛ فردت برقتها المعهودة حين تتحدث معه :
" ڪلا ، بل أنا حضرت مبڪرة بعض الدقائق " .
تحرڪا في طريقهما إلىٰ حقول الطبيعة الخضراء المجاورة لمسڪنهما .. والمروج الخضر بين الأشجار العتيقة التي زرعت منذ الأزل .. ڪما أحس بذلك وڪأنه يشم رائحة الحقبة الإمبراطورية وعطر الزمن الملڪي فڪل ما حوله يذڪره بتلك الحقبة وذلك الزمن
حالةٌ متڪاملةٌ مِن الهدوء النفسي ، والانسجام الذهني والهواء قد سَڪِن في أعاليه ، والطبيعة تعزف سيمفونيتها الخاصة بها .. ولڪن لهما .. فقط .. بموسيقىٰ ملآئڪية تعزفها طيور السماء وبأنغام عصافير الجنان والحان أوراق الشجر ، وخرير جدول الماء الذي يمر بجوارهما
ظهرت عليها علامات السعادة ، بدءَ يلقي بمعصمه في الهواء بالقرب مِن يدها .. يريد أن يلامسها ، بعد قليل قال لها :
" اريدك أن تسيري علىٰ يساري ! .. أمشِ علىٰ شمالي! " ،
أجابته بدهشة :
" ماذا تريد !؟ .. ".
" لم أفهم ماذا تقول !؟ .. "
" ماذا قلت الأن !؟ " ،
فوجد أنها فرصة مواتية آخرىٰ جديدة ليشغلها .. ويدخلها إلىٰ عالمه الخاص به ڪما يرىٰ الدنيا وڪما يفهم الحياة !..
فقال لها وهو يعيد نفس الڪلمات لا يزيد عليها إمعاناً في إستجلاب دهشتها ، إذ هي لم تفهم قصده أو مرامه ، فقال لها :
" أريدك أن تسيري بجواري ".. وتوقف قليلا عن الحديث ثم قال :
" ولڪن علىٰ شمالي .. وليس علىٰ يميني ! " ،
سمعت الجملة ولم تفهم قصده ، فرفعت حاجبيها مستفسرة :
" ولماذا أسير علىٰ يسارك ، أريد أن افهم ، هل يمکنك أن تخبرني !! "
وظهرت بوادر أزمة عالمية بينهما ، ودخول في بوادر حرب نووية مع أحضار حقيبة المرشال لإعلان الحرب والضغط على الزر الأحمر لإطلاق صواريخ تحذيرية أولاً.. خاصة ونحن منذ حين في زمن مساواة المرأة بالرجل..
وشعر بحالة إضطراب في مشيتها وارتجاج في نبرة صوتها ، وهي تردد :
" علىٰ يسارك!؟ .. "
" علىٰ شمالك !؟ .
فأجاب برومانسيةِ القرن الثامن عشر في أوروبا وبرومانسية شرقية أصلية جلبها معه من صحراء العرب خاصة زمن المعلقات والمذهبيات التي عُلِقَت على جدران الكعبة .. وهو „ رفيقي ” يتقنها منذ صباه سُرِقَت بعض تفاصيلها من حڪايات ألف ليلة وليلة ، فقال بصوت خفيض :
" حين تسيري بجانبي الأيسر ، أريدكِ أن تمشي بالقرب مِن قلبي "
وقبل أن تنتهي دهشتها أڪمل :
" حتىٰ لا يدق قلبي بشكل عشوائي ، بل تعتدل دقاته فيهدأ !"
تعجبتْ وعلتْ شفتيها ابتسامة الرضا ، ولعلها أساءت الظن به ..
ثم بدأت تسأله عن أحواله ومعيشته ؛ وأهله ومعارفه .. ولماذا آتىٰ إلىٰ النمسا خصيصاً ؛ كما وتسألت أين تعلم لغة « جوته » وما هي وظيفته الأن ؛ وماذا يعمل وفي أي مدينة يسكن ؛ وما هي المدينة التي ولد فيها - ولاحظ أنها لم تسأله عن جنسيته - ومتىٰ جاء إلىٰ فيينا .. وهل يعيش بمفرده أم له صاحبة أو صديقة أو متزوج وله أولاد!؟ ..
وسيلٌ لا ينقطع من الأسئلة.. وضخٌ هائلٌ مِن التساؤلات ، وڪميات مِن الاستفسارات .. فقد ڪانت تريد أن تعرف عنه ڪل شئ!..
فهي تريد أن تعرف ڪل شئ عن هذا الرجل الذي يرافقها ، فڪان يجاوب أحيانا بالمراوغة ، وأحيانا بسؤال بدلا من إجابة ، وڪانت تقاطعه دائما قائلة له :
" لڪنني أنا السائلة أولاً "
وإثناء حديثها .. ما فارقتها ابتسامتها علىٰ الإطلاق ، ڪانت هي - ڪما هو - في قمة سعادتهما ..
إذ أنه يرافق المرأة ، التي رسمها في خياله ووضع لمساتها الأخيرة قبل أن يأتي إلىٰ أوروبا ، المرأة التي يريدها .. تسير الأن بجواره .
غير الطبيعة لم تمهلهما ڪثيراً مِن الوقت وهما في حالتهما الإنسجامية هذه .. إذ بعد الهدوء النسبي الذي أحاط بالمڪان وهو لم ينتبه إليه ڪما انتبهت طيور السماء ، بدأ المطر يتساقط .. في البداية سخات خفيفة تتلوها سخات!
فقالت بأدب جم :
" هل يمڪنني أن أتأبط ذراعك !؟ " ،
فأجابها :
" بالطبع .. بڪل سرور .. لي الشرف الجزيل أن أڪون مرافقاً قريبا منكِ " ،
إذ ڪانت هي التي معها مطريتها ، وڪان يجب أن يڪونا ملتصقين بقدر الإمڪان حتىٰ لا تبتل ثيابهما ، خاصة وهو يرتدي بدلة فاتحة اللون فقد تخيَّر بدلة توافق المناسبة وقرب قدوم الليل .
لعبت الطبيعة دوراً هاماً في قربهما أڪثر ، فتساقط المطر أوصل جسور الإلتقاء وجاءت نسمة باردة تصاحبهما لتڪمل المشهد الرومانسي .. فيزداد القرب بينهما وتتعلق بذراعه ، وهو - „ رفيقي ” - يحسن القيام بدوره مع مثل هذه المشاهد ، خاصةً إذا تتالت المواقف والصور وتغيرت الأحوال وشڪل الطبيعة يقرب الأحباب ، وتحت شجرة بلوطية منذ زمن الإمبراطورية النمساوية والملڪية المَجرية احتما تحتها وحين أقتربت أنفه مِن رقبتها ومِن الخلف قليلاً قال لها :
" ما أطيب العطر الذي تستخدمينه !" ،
" إنه لا يملؤ خياشيم أنفي فقط بل يتسرب إلىٰ داخل ڪياني فيملأ تجاويف روحي وقيعان نفسي وغرف قلبي ويسير إلىٰ مخي من خلال شرايني "
يتوقف لحظة ليراقب الأثر الذي ترڪه حديثه عليها .. ثم يستطرد القول :
" ما أرق هذا العطر خاصةً إذا لامس بشرتك الناعمة ذات الملمس الحريري "، ثم بصون هادئ ضعيف لا تڪاد تسمعه قال لها :
" أتسمحِ لي أن أستنشق هذا العبير ، ذلك المخلوط مِن العطر النفيس الذي يخرج من بين ثنايا مسام خلايا بشرتك .. ومن هذا الطِيب الغالي الذي سقطت بعض قطراته علىٰ مَلْمَسِك الحريري .
المرأة أعجبت بطريقة حديثة .. وبڪيفية رسم تعبيراته وڪيف يبني جمله .. وڪيف يخطط لمعنىٰ جديد تولد في الذهن لحظة قربه منها ويعتمل المعنىٰ بداخله للحظات ثم يخرجه في ڪلمات خاصة بها وحدها .. يريد أن يسمعها أياها وعلىٰ أذنها هي فقط ، لذلك ڪانت دائماً تأتي جمله وتعبيراته تحتاج لفك طلاسم لُغته وتحليل رموز افڪاره، وهي التي دأبت أن تقول له :
" هذه الڪلمة نضعها في قاموس ڪلماتنا الجديد "
فيقول لها :
"وأنا سأصنع لها ڪتاباً خاصةً بك .. معجماً للُغتي .. وصفحاته سأُلونها باللون الذي يعجبني "،
فترد عليه :
" وأنا سأنتظر بفارغ الصبر أول صفحة من ڪتابك هذا .. لأڪتب ڪلماتنا الجديدة بين دفتي هذا القاموس الجديد ، في الڪتاب الذي ستصنعه لي !.
وهذه الصناعة الجديدة .. صناعة ڪلمات وتعبيرات وجمل جديدة تعبر عن مشاعر إنسانية راقية .. تراكيب جُمل منحوتة في مخيلته هو فقط بتركيبات حروف وجمل ڪأنها لم تستخدم من قبل صاغها خصيصاً لتسمعها هي دون سواها من بنات حواء ..
هذه الصناعة ليست بالمسألة السهلة الهينة بل تحتاج بحق لــ ذهن خالٍ مِن المشاغل وقريحة متوقدة حاضرة متيقظة ساهرة علىٰ تلك الصناعة .. ليستطيع أن يبدع ، فهو يريد أن يسمعها تعبيرات لم تستخدم من قبل ويعتبر أنه أول العاشقين وأنه أيضا آخرهم وأنه متميز عن الآخرين ..
هذه الخصوصية المڪلفة ڪثيراً من الوقت والجهد ، والعمل الذهني المضني واستخراج المعاني الدفينة في النفس البشرية لحظة التعبير .. ليؤڪد لها أنها المرأة الوحيدة في وجود حياته ، والتي تستحق هذا العناء الجميل والمجهود المضني الرقيق وهو سعيد بذلك أيما سعادة .
.. توالىٰ سقوط المطر فترة من الزمان طالت عن القدر المعقول .. وهما صارا بمفردهما في الخارج .. فالڪل اراد أن يحتمي من قطرات المطر ، فمَن ذهب إلى داره أو مسكنه أو حانوت لشرب شئ ما ساخن .. أو آحدى المقاهي .. غير أنهما أرادا المطر وأرادا قطرات الماء .. لعلها تغسل ماضٍ يراد محوه مِن الذاڪرة ..
وهذه النسمة الباردة التي أشتدت رويداً .. رويداً بصقيعها المنشط .. ڪأنها عاصفة خفيفة تهب من جنة العشق ومن روضة الرضوان للمحب ، وهما لا يريدان أن يختبأَ في مڪانٍ فيه ناس ، فقط تحت أغصان الأشجار وتحت ڪثرة أوراقها ولا حماية لهما من نزول قطرات المطر إلا الطبيعة نفسها سواء أكانت رحيمة فتتلطف بهما فتزداد درجة الود وقدر الرحمة .. أو قاسية تقسو عليهما ليتعانقا ؛ فمن هذه أو تلك يقتربا فيصيرا جسدا واحدا بروح واحدة!
-*/*-
ويقول „ رفيقي ” لي :
" هكذا ڪان الإنسان الأول مع مَن أحبها فــ عشقها : المرأة الأولىٰ والوحيدة في حياته وفي العالم أجمع " ،
قصد „ رفيقي ” آدم مع حواء .. إنهما معاً مع الطبيعة دون وسائل حماية .. يفترشان العشب الأخضر الطري الندي المنعش ويلتحفان بسحابة بيضاء تغطيهما في السماء الزرقاء ..
.. ومطريتها « „ صاحبة الشعر الذهبي والوشاح السود ” »لهما معاً غير ڪافيه .. وهو يريد هذا القرب .. بل قربه منها هو الفرصة الأن الوحيدة ليحسن مخاطبتها ڪما يريد ويهوىٰ والمسافات يلغيها ويبقي علىٰ تلك التي يريدها هو ويحددها ، وڪأن الطبيعة تساعده في أداء مهمته الأصلية ڪــ رجل ، ڪـ صائد يحسن نصب مصيدته وفرش وتغطيتها بعشب .. فلا يراها أحد فيسقط صيده بسهولة ويمسك به دون عناء أو تعب بل بيسر ، وهي لم تڪن منزعجة مِن هطول المطر بل ارادت ڪذلك هذا القرب ولم تتأفف منه أو تبدي تعبيراً ينم عن المضايقة ، بل ڪنت تحثه بقولها :
" تڪلم إني أسمعك ! ، صوتك تحت المطر نغم جديد لم أسمعه من قبل " ،
وهو يقول لها :
" ما أجمل هذه الموسيقىٰ التصويرية الطبيعية التي تصاحب ڪلماتك حين تتحدثين معي أو حين أطلق عباراتي معبرة عما بداخلي " .
رويداً .. رويداً شعر ببرودة في أطراف قدميه ، فحذاءه الصيفي بدءَ يمتلأ ماءً ، وجوربه الخفيف بدءَ يتسرب الماء إليه ، فقتربا مِن مقعدٍ وقال :
" هل أنت متعبة فتستريحين ! ؟
ثم قال :
" لا يصلح لنا الجلوس هنا فبالتأڪيد المقعد مبتل تماماً بالماء ، عذراً "
وأشفق عليها وخشىٰ أن تصاب بنزلة برد ، فقال :
" أترغبين العودة إلىٰ منتجعنا الصحي !؟ أم نبقىٰ قليلا لعل المطر يقلع عن الهبوط !؟ "
فأجابته :
" أريد أن أبقىٰ هنا للأبد .. بجوارك في الخارج .. بين الأشجار المبتلة وڪأنها تستحم .. وبين غسيل وجوه أوراق الشجر .. فــ هذه الغابة بيتنا " .
هذه المرة وبسرعة غير معهودة في علاقة امرأة برجل تعرفت عليه منذ ساعات فقط ، ولعوامل الطبيعة لم يصبح „ رفيقي ” مجرد " مرافق " فقط .. بل صار أڪثر مِن ذلك
فــ للحظات ڪثيرة يلف ساعديه حول ڪتفيها ضاماً جذعها الطويل إلىٰ صدره مسمعاً إذنها اليسرىٰ حديثه - فهو ڪان يقف خلفها تحت شجرة البلوط حتىٰ لا يبتلا - ظناً منه أن الأذن اليسرىٰ أقرب إلىٰ قلبها مِن اليمنىٰ .. فيسيل حلو الڪلمات وعسل الحروف علىٰ قلبها فتدرك بإحساسها الأنثوي أن هذا الرجل هو رجلها ، ورجلها الوحيد لا يشارڪها فيه أحد من بنات حواء أو إناث الجن أو نساء الإنس..
وهذا ما تريده ڪل امرأة أن تشعر به.. أنها المرأة الوحيدة في حياة هذا الرجل!.. وإن ڪذب عليها أو أوهمها غير ذلك! .
فڪم تمنيت أن أڪون - ڪما تقول العرب - الوِشاحُ ڪله المغطى حَلْيُ للمرأةِ، ڪِرْسانِ من لؤلؤ وجوهر منظومان مُخالَفٌ بينهما معطوف أَحدُهما علىٰ الآخر، تَتَوَشَّحُ المرأَةُ به، يُنْسَجُ من أَديم عريضاً ويرَصَّعُ بالجواهر وتَشُدُّه المرأَة بين عاتقيها وڪَشْحَيْها
ڪم تمنيت أن أڪون وشاحها !
يقول „ رفبقي ” :
" بدءنا نعد أنفسنا للذهاب إلىٰ ضوء المدينة بعد أن ڪنا سويا تحت عباءة السماء ذات الألوان الفضية وضوء نجم هناك وآخر بعيد عنه يرسل شعاعه مؤذنا بإنتهاء موجة سخات المطر ، والسحاب المحمل بوابل الصيب بدأ في الإنقشاع فترىٰ لمعان النجوم وبريق الڪواڪب ، ويطل الحاسن : قمر الزمان عليهما من علياءه بحياء لا يريد أن يڪشف ما يريدا أن يستراه عن الناس وعنه ، وڪأنه يدير وجهه الفضي عنهما لآخرين ليسوا علىٰ حالنا ، ويلمحا من بعيد ضوء سيارة تعبر الطريق ".
.. النظام في منتجعهما أن يصل المرء قبل العاشرة مساءً ويغلق الباب العمومي في العاشرة والنصف ، وحين تدخل غرفتك وتضع مفتاح غرفة إقامتك تضاء الكهرباء ، وتضاء لمبة خضراء عند مُرَاجِعة الدور الذي تسڪن فيه مشيراً أنك الآن في غرفتك ..
لا يهم ڪيف حالك!؟..
أو فيما تفڪر !؟..
المهم أن الضوء الأخضر يضئ عند حارسة المرضىٰ !..
وأنتَ الآن في غرفتك !
ماذا نفعل الآن !؟..
أيذهب ڪل منا إلىٰ غرفته ليحرس نجوم الليل من سرقة العشاق الآخرين ، ويرعىٰ ڪواڪب السماء خوفا من أن يفترسهم ذئاب البشر أو الحيوان ، لا مفر من ذلك!
فهذا نظام صارم وإن ڪنا في بلاد الحريات الأربع المقدسة وفق الدستور الأساسي للدولة وقانون البرلمان ، ولڪن توجد بجوارهما نُظُم وقوانين تنظم العلاقات .. وإن ڪانت الحرية الشخصية - آحدىٰ الحريات الأربع - مصانة إذا تعديت سن الرشد ، ليس امامنا إذن من مفر من عودة ڪل طرف إلىٰ غرفته ليغلقها عليه ويتمدد بمفرده علىٰ مرقده وينتظر الغد ، ولعل الغد قريب .
لم يستطع أن يرافقها إلىٰ غرفتها فهذا ڪثير ، حيَّاها تحية المساء وتمنىٰ لها نوماً هادئاً بأحلام سعيدة وتلفظ بصوت خفيض:
يقول " أرجو لكِ أحلاما " عسلية " .
**
[44] « الإستعداد للرحيل »
سيمر يوم الإثنين غداً وفي صباح الثلاثاء سيغادر المڪان والدنيا .. بعيداً عنها مسافراً أڪثر من ثلاثمئة ڪيلومتراً إلىٰ إتجاه مدينته الڪبيرة التي يسڪن فيها ، سيعود إلىٰ مزاولة حياته العادية ڪما ڪانت مِن قبل، وهي تبدأ فترة علاجها في منتجعهما ، قَدرٌ عجيب جَمَّعَ ولحظة أن وثقَّ فرقَّ .
أمامه بعض نهار الإثنين وربع مساءه ويتبقىٰ صباح الثلاثاء دقائق معدودات بعد تناول الفطور ويغادر جنة الرضوان .
**
إنها المرأة التي ابدعها خالقها في صورة الأنثىٰ الڪاملة فابدعت في معاملة الرجل العاشق ، صورتها في خياله ڪما في الكراسة التي ڪتبت له علىٰ صفحاتها مشاعرها حين غاب عنها في رحلته الموسمية إلىٰ جزيرة العرب ليجاور في مڪة ثم يجتهد في الروضة بالقرب من مرقد رسول الإسلام والسلام والمحبة والوئام ..
نظر لصورتها .. فأمطرت السماء دموع الشوق والجوىٰ ، إنها المرأة الوحيدة التي ارغمته ـ ڪما أعترف لي ـ علىٰ البكاء أمامها وفي غيابها حين قرر أن يبتعد عنها ، وعزيز علىٰ الرجل البڪاء حين يفارق ، وأليم علىٰ المرأة الفراق حين يودعها الرجل الذي عشقها ، فأحبته وعشقته هي ايضاً ، تبعثرت اشياؤها في ڪل أنحاء المڪان الذي يعيش فيه ، قاصدا أم ناسيا ..إنها تريد أن تبتلع وجوده في ڪينونتها فقد أغرقته بأشياء في ڪل مناسبة لتظل هي المرأة الوحيدة في العالم وفي حياته وإن فارقها .
**
فهل للقصة مِن بقية ، لعل الجواب يأتي من صاحب القصة ، وهذا ما انتظره من „ رفيقي ” .

[45] « القصة بدأت »

القراءة الأولىٰ لــهذا الجزء من
﴿ " رُوَايَّةُ : « „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ” ».﴾
ڪانت في تونس الخضراء..
نابل – الحمامات الجنوبية
Regency ~ نُزل ريجنسي ـ
الخميس 31 ديسمبر 2009م
آحدىٰ الورقات من ڪـراسة إسـڪـندريات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذه هي القراءة الثانية للجزء الأول مِن روايتي الوحيدة .. خصصت لموقع آستروعرب نيوز ؛ والذي يصدر مِن فيينا ~ النمسا..
ويغلب علىٰ ظني أنه ليس هناك موقعا بحث أو نشر مثل هذه الأحداث؛ أو معالجتها وإن تم التعرض والمرور لجزئيات من واقع معاش في الغرب بين الرجل والمرأة بصورة ما
ولا ينبغي أن يفوتني أن أرفع جزيل الشڪر وعظيم الامتنان لإدارة الموقع بسماحهم نشر أجزاء الرواية علىٰ صفحات موقع آستروعرب نيوز؛ والشڪر موصول للسيدات والسادة القراء.
ويصلح أن أقول إنها المحاولة الأولىٰ مني في صياغة وسرد أحداث امتزج فيها الخيال الخصب بالواقع المعاش المر حينا والحلو أحياناً؛ خاصة بڪل ما يتعلق بعلاقة المرأة بالرجل -الرجل بالمرأة- [(وليس فقط علاقة الذكر بالأنثىٰ: وهذه هي آدنى العلاقات بينهما)] وما يترتب علىٰ تلك العلاقة وينبثق منها من أحكام ومعاملات أو ما يطلق عليه بالنظام الإجتماعي؛ إذ أن لڪل مبدأ أساسي في الحياة نظمه الخاصة به؛ ولغياب النظام الإجتماعي في الإسلام -أو بعض أحڪامه- عن الحياة اليومية المعاشة استبدل به نظم آخرى مستوردة ودخيلة على مجتمعات جُل أهلها من المسلمين؛ كما ولتراجع مؤسسات رعوية تَقَدم في الساحة مَن لا يصلح لعلاج ما يترتب علىٰ العلاقة بين الرجل وبين المرأة..
وڪاتب هذه السطور ليس من هواة قراءة الروايات أو القصص؛ ولكني أردت أن أكتب عن النظام الإجتماعي أو مدرسة الأزواج بطريقة مشوقة للقارئ، ولدقة المعلومة لم اقرأ في حياتي سوىٰ رواية للڪاتب المِصري المعروف الأستاذ محمود عباس العقاد [(سارة)]..
وقد سبقني لعلاج هذه القضية [(المشرقي في الغرب)] في رواية ڪل مِن:
*.) توفيق الحكيم -المِصري- في روايته : "عصفور من الشرق".. إذ
دارت أحداث روايته بصورة عامة في مجتمع غربي، بالتحديد في مدينة (باريس) في فرنسا وما فيها من أماكن متعددة، مثل: الكنيسة، والمسرح، وغيرهما.
ورواية الحكيم لم أطلع عليها..
*.) الطيب الصالح -السوداني- في روايته : "موسم الهجرة إلى الشمال"..
يُجسّد الصراع الأزلي القائم بين الشرق والغرب علىٰ أصعدة مختلفة، مبرزًا التمايز والمفارقات العديدة بين هاتين الحضارتين وتدور أحداثها في عدة أماكن محورية : الخرطوم والقرية السودانية النائية، ولندن عاصمة بريطانيا، والقاهرة، كما وردت عدة أماكن أخرىٰ لها دورا ثانويًا في الرواية وله أهمية أيضًا، والأماكن جميعها -الرئيسية والثانوية- معًا كانت ذات صلة بالمغزى الرئيس من هذا العمل الأدبي.
*.) "الحي اللاتيني" للكاتب والروائي اللبناني سهيل إدريس
تبحث العلاقة بين الشرق والغرب، فعقد مقارنة بين العادات والتقاليد والمعطيات في كل من الحضارتين؛ تدور الأحداث بصورة أساسية في مدينة "باريس" في فرنسا، وذلك بوصفها مكانًا يعكس الحضارة الغربية، ومنبعًا للعلوم والفنون المختلفة، ورمزًا للتقدم.
*.) رواية "شرقية في باريس" للكاتب والروائي المغربي عبدالكريم غلاب؛ تطرّق الكاتب فيها إلى قضية تعرف بــ السيطرة الحضارية أو حوار الحضارات، موضحًا من خلالها الصراع القائم بين الحضارات والثقافات المختلفة.
*.) رواية "طشاري" لمؤلفتها العراقية إنعام كجه جي؛ تُشير الكاتبة في روايتها هذه إلى فقدان الهوية والشعور بالانتماء عند اللاجئين والنازحين، مُجسدةً ذلك من خلال قصة بطلتها التي عصفت بها الرياح بعيدًا عن وطنها، واصفةً حياتها وذكرياتها التي عاشتها في بلادها.
*.) رواية "في قلبي أنثىٰ عبرية" لمؤلفتها التونسية خولة حمدي..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا ملخص شديد الاختصار لهذا النوع من الأدب الرفيع والذي يمس دواخل النفس البشرية؛ سواء لكُتَاب عالميين أو محليين؛ يعالج هذه القضية الغربة؛ وما يتبعها من مسائل أو مشاكل، ولا أدعي أنني قرأت روايات سابقة فقمت بإعادة صياغتها.. فهي روايتي الأولى ولعلها الآخيرة..
فإذا أحسنت فقد وفقت وإن أسأت فارجو من حضراتكم المسامحة؛ واتمنى أن لا أڪون اضعت أوقاتڪم في قراءة ما لا يفيد!
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
نهاية الجزء الأول :
﴿ رُوَايَّةُ : « „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ” ».﴾
ويليه الجزء الثاني
(د .الْفَخْرُ؛ الْإِسْــڪَـــنْدَرَانِيُّ؛ ثم الْمِصْرِيُّ مُحَمَّدُ فَخْرُالدينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِنْ الْإِسْــڪَــنْدَرِيَّةِ)
‏الثلاثاء‏، 29‏ شعبان‏، 1444هــ ~ الموافق: 05 مارس 2023م

36-41 حبيس المرأتين

[ 36 ] « أسلوب نشأة »:

ڪانت هذه المواقف السابقة بمجملها قبل أن يتجاوز الحادية عشر من عمره بقليل ، وهو مازال تلميذ الإبتدائي في بداية الصف السادس وفق نظام التعليم الإلزامي وقتذاك ، يتذڪر تماماً ما قيل وما جرىٰ ڪأنه حدث البارحة ، ولعل السيدة « „ فوزية ” » لعبت الدورَ الأعظم في حياته المستقبلية ڪرجل ، فقد صارت هي المرأة النموذجية والمثال الذي يبحث عنه بين النساء مع بعض التعديلات التي أخذت من النماذج الأوروبية .
السيدة « „ فوزية ” » ڪانت امرأة جميلة حقاً فهي في نهاية عقدها الثالث ، وهي مفعمة بإنوثة صارخة طاغية ، تجذبك طفولتها البريئة في حديثها .. النظيفة في تعبيراتها وإن ڪانت سيدة ذات بعل فولدت طفلين ، عيناها مڪحلتان عسليتان تتڪلمان قبل شفتيها ، ڪستنائية الشعر الحرير الناعم الذي ينسدل علىٰ ڪتفيها ، ممشوقة القوام .. تمتلك مساحات شاسعة من بياض البشرة خُلط فيها العسل الأبيض النقي بالحليب الطازج المشرأب بـ لون حبات الفرَولة المقطوفة في حينها فتلاحظها في بعض المناطق التي يتمكن المرء بسهولة ويسر أن تراها ، لا تجد طبقات دهون قد اڪتنزت في مناطق ما ، فــ إذا مرت أمامك بخطوات قصيرة ينتشر في المڪان حولها ويفوح عبق عطر لم يشمه إنسان من قبل ، فهي قطعة مِن المسك الأصلي من أخمص قدميها إلىٰ مفرق شعرها ، وتمتاز بـ رقة الأم الحنون الرؤوم .. فــ يقترب منها „ رفيقي ” ڪعادته - فهو مازال الصبي الصغير المدلل - وهي تأتي ڪأنها أتت له وحده - المسألة القديمة وعقدته المستقبلية وقضيته الجوهرية فهو دائما يريد أن يڪون مرڪز الدائرة ووسطها - .. والسيدة « „ فوزية ” » تفتعل مواقف معه ڪأنها دبرت في ليل دامس دون أن يدري ، فهو الابن الوحيد الشبه مدلل .. بل بحق المدلل ، أو ڪما يقولون عنه „ ابن أمه ” .. „Muttersöhnchen“ .
تربىٰ بين أحضان جدته لأبيه ، تطعمه بيدها وتغطيه برمشها وتنظفه بطهورها وتحميه بمائها ، فوجد بين ذراعيها منذ أن أدرك وجوده .. فــ في الذهاب وحين المجئ يرافقها .. يسير خلفها ممسڪاً بــ ملائتها الْإِسْــڪَنْدَرِانِيَّةِ اللف .. فــ راعته حق الرعاية وربته حسن التربية ودللته ڪثيراً .. ڪأنه آخر أحفادها .. وإن جاء من بعده الڪثير ..
ومع جدته وبجوارها وبها وبجوار أمه صار كــ « „ حبيس المرأتين ” » ، لم يسمح له أن يلعب مع أترابه ڪرة القدم الشراب ڪما هو معتاد في شوارع الْإِسْــڪَنْدَرِيَّةِ وحواريها ، فـ ڪره ڪرة القدم وڪرة السلة والطائرة .. وأتجه لرياضة ڪمال الأجسام .. وحين لم يناسب عرض صدره لبناء العضلات اتجه إلى لعبة الجودو ، وهي رياضة مناسبة للدور الذي لعبه مع جدته أو أمه -المرافق الحامي- وبالتالي مع من سيأتي بعدهما من النساء في طريق رجولته ، وڪان لخوف أمه عليه من الهواء والغبار فـ لا يتحرك إلا بنظام فلا بد أن يسير بحذاء ملمع ومدهون بالورنيش في الطريق العام - ڪحذاء أبيه - ، والمرة الوحيدة التي خرج فيه عن نظام أمه ونزل حافي القدمين إلى الشارع ليلعب مع ابناء عمته جرح جرحاً عميقاً في بطن قدمه اليسرى من جراء زجاجة " ڪوڪا ڪولا " مڪسورة العنق لم يرها وذهب إلى المستشفى وخيط الطبيب الجراح جرحه بــ ست غرس ومڪث في الفراش ، وبهذا دللت أمه على صحة دعواها بالحادثة هذه طوال عمره الطفولي - وعمره الطفولي لن ينقضي ابدأ ، ڪما صرحت ذات مرة بذلك امرأة كانت ظلاً له من ظلال نساءه الڪثيرة السيدة „Christina“ ، ڪما ڪان يناديها أو يڪتب اسمها حين كان يراسلها بالخطابات وصحة اسمها هكذا „Christine“ - ، وڪان نظام أمه أنه لابد أن يغسل يديه قبل تناول الطعام ... وأن يغتسل قبل الذهاب إلى الفراش .. قائمة طويلة من أبجديات النظام .. بل لابد من ڪذا ولابد من .... ولابد .... قائمة طويلة من النظام والروتين .

[ 37 ] « حبيس المرأتين »

لاحظَ أبوه ما أَلمَ بابنه الوحيد وما يسير عليه من نظام .. وتعلقه الشديد بجدته لأبيه وبأمه .. وخشىٰ عليه أن يلحق بڪتيبة « المخنثين » ؛ أضف أنه الأبن الوحيد لأبيه الحي فلن يدخل الجيش المِصري لأداء الخدمة العسڪرية ، والجيش يربي الرجال ؛ فتحدث - يغلب علىٰ ظن „ رفيقي ” ؛ ڪما روىٰ لي - تحدث أبوه مع أحد زملائه في المحڪمة الحقانية فقال له :
« „ لابد أن يخرج أبني مِن « سجن النساء » ؛ ليلتحق برڪب الرجال ” » ؛
لڪن السؤال ڪيف !؟ .
وهنا تدخلت فــ جاءت السيدة « „ فوزية ” » بــ لحمها وشحمها وأنوثتها وعنفوان شبابها في حياة „ رفيقي ” الأولىٰ وهو مازال سجين المرأتين وتحت وصاية وتربية النساء مع رعاية غير مباشرة من نوع خاص من الرجال .


[ 38 ] « السيدة فوزية

السيدة « „ فوزية ” » لعبت معه دور العاشقة الولهانة المغرمة بالصبي ابن الحادية عشر „ عيسى ” الإسم الذي أختاره اصدقاء الأب له ، أو الـ „ مصطفىٰ ” ڪما أختارت له جدته لأبيه ، ڪان يذهب للأستاذ „ أدولف ” ، وهذا هو معلمه الثاني ، وأستاذه يملك مواهب شتىٰ ويملك قدرات لُغوية ، فهو يتحدث الإنجليزية بطلاقة ويجيد اللغة الإيطالية ، وبدأ معه دروساً وأخذ يلقنه مفاهيم عن الحياة .. هذا هو مضمون الإتفاق الذي تم مع أبيه - وهذا غالب ظنه أيضاً - وبند الإتفاق الأوحد يقول : „ علينا نحن الرجال - زملاء أبيه في العمل - أن نخرج هذا الصبي من حظيرة النساء ووصياتهن، فيتعامل مع النساء علىٰ أنه رجل وليس من زمرتهن ” ؛ وفارق -ڪما فهم رفيقي- أن يڪون المرء ذڪراً أو أن يڪون بالفعل رجلاً...
فــ بدء العمل علىٰ قدم وساق ، ولم يڪن يدري أصول اللعبة ، ولا قواعدها ، شارك معهم دون أن يدرك ماذا يريدون فعلا منه! .
بدء الحديث عن إهتمامات آخرىٰ غير الدراسة ومواد التعليم الإلزامي والواجب البيتي اليومي وتحدث معه عن ممارسة الرياضة حتىٰ يڪون رجلاً قوياً ، وأخبره قبل الأوان بعدم مزاولة العادة السرية " نكاح اليد " عند البلوغ وسن الشباب ، فإن زاولها سيظهر علىٰ باطن يده شعيرات ڪدليل علىٰ الفعل الشنيع الذي لا يليق بفحولة الرجال ، وأخبره بأن البنات ما أڪثرهن ، وأيضاً تحدث معه عن بعض الهوايات .. فوجد رغبة منه في هواية جمع الطوابع البريدية من ڪل أنحاء العالم وڪان لدىٰ أستاذه الجديد ڪما أسلفت عدة إهتمامات وهوايات ، فبدأ يجمع طوابع البريد وأقترب من العالم الآخر ، فليس فقط الذهاب المنتظم إلىٰ السينما يڪفي ، ورويداً .. رويداً دخلت المرأة الأولىٰ(!) أو بتعبير آخر « „ أنثىٰ ” » وليس فقط امرأة .. فجدته امرأة وأمه امرأة بل امرأة أُريد منها أن تلعب دوراً في حياته المستقبلية ، لتنقله إلىٰ درجة آخرىٰ أو أعلىٰ من الإهتمامات الحالية ، والسيدة « „ فوزية ” » ڪانت مناسبة تماماً للقيام بهذا الدور فهي جارة الأستاذ „ أدولف ” ؛ أمرأة في نهاية العقد الثالث أو علىٰ مشارف الرابع ، لديها ولد يكبره وفتاة ليست جميلة ڪأمها عرفت من الآخرين أنهم يلعبون معه دور أساتذة مدرسة حياة غير تقليدية بنواحيها المتعددة ، فڪانت تتهڪم عليه لصغر سنه ولتفاهته أو سذاجته أو خجله أو ڪل هذا معاً .
السيدة « „ فوزية ” » ؛ أرادت أن تعلمه أو تفهمه ما لم تستطيع جدته المتديّنة ولن تسطع أن تعلمه إياه .. ألا وهو أن يخرج من دور الطفل المدلل والصبي الخجول إلىٰ دور ينتظر ڪل رجل وهو العلاقة الحتمية بينه وبين امرأة في المستقبل قد تعجبه ، جدته لقنته دروساً في قوالب صيغت علىٰ نمط تربية العصور الوسطىٰ بمقياس أفعل أو لا تفعل .. قيم الحِل والحرمة دون تفعيل الحدود التي عُطلت منذ زمان طويل ڪجلد فاعل الزنا -مثلاً- أو تعزير الشاب المراهق مع غياب أمثلة لتقريب المفاهيم والمقاييس والقناعات التي صارت في قوالب جامدة .. والأمثلة التى تقدم غالباً لا تُفهم ، ولڪنه تم بأسلوب ساذج غير تربوي ، وغير فاعل .. واقتصر دور المسجد على أجكام الطهارة والوضوء والغسل والصلاة والصيام .. وهنا تأتي تربية جديدة .. فقد بدأت « „ المرأة ” » « „ الأنثىٰ ” » السيدة « „ فوزية ” » والتي هي في سن أمه .. ولا يدري ڪيف يناديها .. أيقول لها " خالتي " أو " عمتي " أم يقول لها " طنط " ، منذ البداية حطمت « „ فوزية ” » ڪل الحواجز بين صبي في نهاية مرحلة الإبتدائي ستبدأ عليه قريباً .. وقريباً جدا بودار بلوغ مرحلة جديدة ليست دراسية بل بيولوجية ، إذ سينتقل مِن طفولة بريئة إلىٰ مرحلة مراهقة يجرب فيها الممنوع ، إذا لم يره أحد .. ويقترب مِن حدود الحرام وقد يفعله .. ڪما وقد يرغب في ممارسة ما يفعله الكبار تشبيهاً من غير قناعة وتمثيلاً من باب التقليد وقد يحسن الدور أمام المراهقين أمثاله فتلتفت إليه فتيات الحي وطالبات مدارس البنات المجاورة لمدرسته ، حطمت السيدة « „ فوزية ” » ڪل الحواجز بينه وبينها وڪان يعلم أبيه القصة فهو وهم - أصدقاء والده - أرادوا تشڪيل رجلا „ ملو هدموه ” ڪما أخبره بعد ذلك بعدة سنوات زميل والده الشاب المحامي بالنقض ، وهو حفيد السيدة الترڪية ڪما أخبر بذلك قبل أن يقابله في مڪتبه ..
إذن هناك في المواقع الخلفية على أرض الإعداد خيوط « مؤامرة » تجتمع علىٰ الصبي المدلل « „ ابن أمه وتربية جدته ” » أو قل خطة عمل لصنع رجل أو محاولة بالفعل لصنع رجل المستقبل .


[ 39 ] « الموعد الثابت »

صباح ڪل جمعة صار الموعد الذي يجب أن يذهب فيه للأستاذ „ أدولف ” وڪانت السيدة تأتي بعد أن يذهب زوجها إلى عمله لتقوم بدور معدة رجل المستقبل ، فهي أم وربة بيت ، ولديها وقت ڪاف لتقوم بعدة أعمال ووظائف ڪلها ستتم في البيت ، بل العمل الجديد طريف ومسلي ، « دور العاشقة » للـ « „ المتدرب ” » فڪانت تقترب من الصبي بڪلمات الأنثىٰ والجميع حضور وڪانوا ينظرون إلىٰ الصبي ويضحڪون .. حين يتلعثم في الرد أو يبدي خجلاً مما يسمعه ، ڪانوا جميعاً يعلمون أنه لعب وتمثيل وهو لا يحرك ساڪناً ضد نظراتهم أو ضحڪاتهم ، وهو الوحيد الذي لم يفهم اللعبة و لا أصولها إلا متأخراً ، فما زال مبڪراً عليه تفهيمه هذا الدور أو ما يراد إعداده له ..
غالب الظن أنها تبرعت بدورها وبالطبع لا تريد من الصبي أي شئ ، ولا من والده ، دورها فقط أن تلعب دور المرأة - ڪأنها تطارحه الغرام ، وڪأنهم يريدون عن قصد تنشيط هرمونات الذڪورة في جسده لتفعيلها أو علىٰ أدنىٰ تقدير إخراجه من حظيرة النساء فهو صبي وليس فتاة .. وهڪذا ينبغي أن يڪون رجلا ، وهو يعلم أن هناك أمر ما غير مفهوم ، ولم يڪن يستطيع أن يقول شيئا ، فقط هو يستمع لڪلامها لا يستطع أن يجاريها ، فقط يستمع إلىٰ أن جاء يوم الفضيحة .
ــ ـــــ ـــــ ـــــــــ ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ
[٤٠] : الْوَرَقَةُ الأربعون مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ
ــ ـــــ ـــــ ـــــــــ ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ
[ 40 ] « فضيحة بجلاجل »
جاءت صباح الجمعة ڪعادتها إليه ويعتصر الألم جسمها الأبيض الناعم وتتلوىٰ من مغص شديد .. لا يدري „ رفيقي ” مصدره غير أنها تقول له :
« „ بطني بتوجعني .. بتؤلمني! ” » ؛
وهو بعفوية الصبي المدلل الذي يسارع عند اللقاء لوضع رأسه علىٰ صدر عمته أو نساء أعمامه أو خالته أو نساء أخواله ـ حين يقابل آحداهن ، تقدم إليها وأراد أن يواسيها ، موقف جديد بالنسبة إليه ، فهو بعيد عن عالم النساء الحقيقي ، وإن ڪان مقرباً منهن وقريباً ڪطفل مدلل ، قالت له :
« „ خذني بين يديك ، ڪي أستريح قليلاً ” » ؛
ولعل الفڪرة راقت لها ووجدتها فرصة سانحة لدرسٍ جديد مع الصبي المدلل فقالت له :
« „ تعال إلىٰ الغرفة الثانية ، المجاورة لقاعة الجلوس ، هناك أمر أريد أن افاتحك فيه! ” » ؛
فذهب معها دون أدنىٰ تفڪير .. ومن ألمها لم تستطع السير فعتمدت علىٰ ڪتفه الضعيف ولم تستطع أن تتأبط ذراعه فهو بالنسبة لها ليس بالطول الڪافي الذي يمڪنها من أن تعتمد علىٰ ذراعه ، وهناك في الغرفة الثانية التي ما دخلها قط في شقة أستاذه „ أدولف ” ڪان يوجد سرير فتڪوعت عليه مباشرة وقالت له :
« „ ضع يدك الحنونة علىٰ بطني لعل الألم يخف قليلاً ” » ؛
أرتبك الغلام ماذا يصنع(!)..
إنهما بمفردهما في غرفة لا ثالث معهما ، والباب مفتوح في ڪل لحظة قد يدخل مَن يريد! ، مدها علىٰ إستحياء ووضعها فوق الموضع الذي حددته له .
هناك فارق بين لعب الأطفال فيما بينهن .. وبين لعب الأطفال مع الكبار ، والشاذ لعب الڪبار مع الأطفال والوضع الجديد بينه وبين السيدة « „ فوزية ” » ؛ جديد بڪل معانيه وهو لا يعلم ڪثيراً عن دواخل حياة المرأة البالغة ، والأنثىٰ التي بلغت مبلغ النساء .. فجدته وصلت إلىٰ سن الإياس منذ سنوات طوال ، وأمه ما حملت أو وضعت غيره ، مسألة جديدة من ألفها إلىٰ يائها بالنسبة إليه ، وبدأ بالفعل يقوم بدور الرجل الحنون وقال مواسياً إياها :
„ ماذا حدث لك !؟ ، ماذا جرىٰ !!؟.. أخبريني ” ؛
وتڪلم بڪلمات رقيقة ، غير ان المفاجأة جاءت حين قالت له :
« „ أنت السبب في ڪل معاناتي وألمي ، أنت السبب يا ظالم ” » ؛
وبدأت بسلسلة من تراڪيب الجمل التي يسمعها في المسلسلات العربية ويشاهدها حية علىٰ صفحة الشاشة الفضية أو تعاد مرة ثانية أمامه من خلال جهاز التلفاز -وقتها أبيض وأسود-، وبدأت تتقمص دور الفتاة التي غرر بها الوحش المفترس ، الشاب الوسيم ابن العائلة الإرستقراطية(!) ، وهي الخادمة من عائلة فقيرة .. فأغتصبها أو هڪذا أرادت أن تفهمخ أو تقنعه بأنه فعل شيئاً ما من هذا القبيل ، دون صريح العبارة .. وأيضاً أرادت هي منه أن يلعب دور فتىٰ الشاشة العربية الوسيم الذي " ضحك " علىٰ بنت الجيران ففعل فعلته الشنيعة في ليلة مطيرة باردة ظلماء دهماء وغادر القُطر المِصري في رحلة دراسية إلىٰ أوروبا دون أن تدري ، ولمدة سنوات ؛ أو ترڪها لأنها ليست من مستواه الاجتماعي ..
واستوديوهات مِصر أنتجت العديد من هذه السخافات في هذا الوقت وما زالت .. فتتوالي أحداث الفيلم العربي المملل ليخرج علينا أستاذ الدراما " يوسف بيك وهبي " ويعلنها صريحةً ومدويةً في سماء قاهرة الأزهر والمعز لدين الله الفاطمي مدينة الألف مأذنة :
« شرف البنت ڪالڪبريت ما يولعش إلا مرة واحدة » .
إنها « فضيحة » من الوزن الثقيل وبڪل المعايير والمقاييس ..
ثم تنهد قليلاً وقال بعد ذلك ببراءة أطفال الروضة :
„ بس.. أنا معملتش حاجة!! ” ؛
غير أنها تقمصت دورها واتقنته فوبخته بقولها :
« „ ما فيش غيرك أنت صاحب المصيبة : أنا حملت منك ! ” » ...
ثم تنهدت ڪعصفور صغير ڪسير الجناح مبلل بأمطار الشتاء ؛ غاصت قدماه في وحل الرذيلة ... ثم أردفت:
« „ ما في أحشائي هذه ابنك ، منك أنتَ ، يجب أن تصلح من فعلتك الشنيعة ” » ...
ويتذكر „ رفيقي ” أنها افتعلت البكاء.. أو هڪذا سمع صوتا اختلط فيه الألم بالبڪاء .. ثم قال:
« „ ماذا أقول لزوجي الأن!؟ ، أقول آيه لعيلتي!؟.. لأهلي !؟.. لابد أن تصحح غلطتك هذه !! ” » ؛.
ثم رفعت رأسها بشموخ من فوق مخدة الفراش .. وقالت :
« „ مصيبة ” » ؛. وارادت الجلوس بيد أنه لم تتمكن من أَلمها .. فصرخت صرخة مڪتومة: « „ فضيحة ” » ؛. ... ثم اردفت بصوت مفعم بالتحدي :
« „ سوف أتڪلم مع أبيك حين يأتي ، سيأتي اليوم ، أليس كذلك !!؟ ” » ؛
أُسْقِطَ في يده ، تلعثم ، ثم توقف عن الڪلام ، بل توقفت رئته عن أستقبال الهواء أو إخراجه ، بدأ الدق التنازلي في قلبه ليتوقف من شدة الصدمة ...
ثار .. وغضب .. وهاج .. وقال بعلو بصوته :
„ أنا ما فعلت شيئاً ”؛
ومع صغر سنه إلا أنه يفهم بعض الأمور ، وسألها ظناً منه أنه أقحمها ويرغب في أسڪاتها :
„ طيب.. ڪيف تم ذلك وأنا مازلت صغيراً !؟ ” ؛
لحظتها ضحڪت .. ولا يدري „ رفيقي ” » أارادت بضحڪتها هذه ڪسب وقت لتفڪر في الرد أم عفوية السؤال وعدم قدرتها على توضيح ما يتم بين الزوجين !
لڪنها بسذاجة القرويّة التي تؤمن بالجن وتلبيس إبليس والمخلوقات العجيبة الآتية من الفضاء الخارجي .. أضافت :
« „ عن طريق الهواء ، آيوه .. حملتُ منك عن طريق الهواء ” » ؛
فخرج من الغرفة غاضباً .. مزمجراً .. لا يلوي علىٰ شئ وڪأنه يستنجد بمعلمه وأستاذه „ أدولف ” ليخرجه من فضيحته أو يساعده في ورطته هذه غير أن الأستاذ أڪد الخبر .. وحين رأي الغضب في عينين الصبي ترك الغرفة وذهب إلىٰ المطبخ ليعد الشاي أو القهوة لضيوفه فهو غير متزوج ولا يريد الزواج ، وليس في حياته امرأة وڪأنه لا يعرف أن هناك صنف اسمه « „ حريم ” » ؛ ثم تبرع أحد الضيوف بإڪمال الدور فقال له :
« „ نعم .. نعم! صحيح أنت الفاعل ما فيش غيرك ، ولازم تصلح غلطتك دي، الست « „ فوزية ” » الآن في ورطة .. وهذه مصيبة وفضيحة .. ” » ؛ وأخفىٰ ضحڪةً ڪادت تظهر أنيابه .. واردف قائلاً: « „ حرام .. والله حرام .. تضحك علىٰ عقول بنات الناس ، أنتَ معندڪش أخوات بنــــات ... ” » ؛
غمزته السيدة « „ فوزية ” » ليسڪت ، إذ أنه لا يعرف الڪثير عن المتدرب „ رفيقي ” فالمتبرع بإڪمال الدور ضيف جديد ، لم يحسن المخرج إعداده بعد.
ــ ـــــ ـــــ ـــــــــ ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ
[٤١] : الْوَرَقَةُ الواحدة والأربعون مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ
ــ ـــــ ـــــ ـــــــــ ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ
[ 41 ] « ابن الناس .. يسب الناس »
ڪلام ڪبير وموقف عصيب ، وبدأ ابن الإسڪندرية يفلت من بين أطراف شفتيه وهو الولد المؤدب ڪما يقول الڪل عبارات غير لائقة وغير مهذبة ، سمعها من الشارع ، وسريعا تدخل الأستاذ „ أدولف ” ليحل الإشڪال إذ هم الصبي صاحب الفضيحة بالخروج ومغادرة البيت وقال لهم جميعا :
„ أنا رايح لــ ماما .. أقول لها ”؛
أنه بحق ابن أمه ، وفي هذه اللحظة قال الأستاذ :
„ اصبر قليلاً أحنا ڪنا بنهزر معاك وڪنا عاوزين نشوف راح تتصرف أزاي في مثل هذا الموقف ” .
ثم أوضح له بأن الست « „ فوزية ” » أسقطت ما ڪان بأحشائها ، جنين سقط ، ونحن أردنا أن نڪبرك معنا ، ما فيش مشڪلة ولا حاجة ! ” ؛
وضحك الجميع ،
ولڪنه لم يجد ما يدعو للضحك ، إذ أنه نظر إليها فوجدها ما زالت تتألم .. ولأول مرة تضع علىٰ ڪتفيها شال أسود تغطي به نفسها ، وهي المرأة التي ڪانت تأتي بملابس تكشف أڪثر مما تستر عورة المرأة وفق رؤية جدته لأبيه .
انتهىٰ المشهد ، وهم لا يدرڪون الآثر العميق الذي ترڪه في نفسية الصبي وذاڪرته .
ــ ـــــ ـــــ ـــــــــ ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ
[**]: وَرَقَةُ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ
ــ ـــــ ـــــ ـــــــــ ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ
** : « „ ELLE ” » ...

تجولنا مع رفيقي في أيام طفولته وصباه لندرك العوامل المؤثرة والتي شڪلت شخصيته فيما بعد ، وهو لم يحدثنا بعد عن فترة شبابه وسفرياته ونشاطه السياسي.. إذ أن شخصيته جمعت الشئ ونقيضة ، ويغلب علىٰ ظني أنها نفس بشرية رُڪبت في ابن آدم ڪبقية ذريته ، فلا عجب ، وإلا فما ڪان هناك داع لإرسال الرسل والأنبياء والمصلحين والعلماء علىٰ مر الزمان وڪر العصور .
نعود لقصة المرأة صاحبة « „ التعريف ” » :
« „ ELLE ” » ...
ــ ـــــ ـــــ ـــــــــ ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
الجزء الأول مِن رواية : « „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ” ».
‏الإثنين‏، 30‏ رجب‏، 1444هــ ~ 20 فبراير2023م
 

22- 35 - مدرسة الحياة

[ 22 ] « المدرسة الحقيقة ... مدرسة الحياة

هناك فصول دراسية في مدرسة الحياة مر بها رفيقنا ، بعض هذه الدروس أو المواقف غالية التكاليف باهظة المصروفات عالية الثمن إذ أنها تستغرق كامل عُمر الإنسان ، بعض هذه الدروس لم يعشها بنفسه فــ لا يذڪرها ؛ فقط سمعها مِن الوالدة.. والسماع يحوله عنده لوجود حقيقي داخله فتحتفظ بهذه الدروس الذاڪرة ويتفاعل معها لحظة اجترارها باعتبارها معلومات أولية معتمدة من جهة موثوق بها ، وبعضها عايشها وعاش معها.. فرح بالقليل منها وتألم لكثيرها ، فهو التلميذ/الطالب الدارس الوحيد في فصل دروسه التعليمية الإلزامية طوال حياته..


[ 23 ] « آثر الدين في التربية »

ولعل الدرس الأول منها هو : « „ تسميته ” »
اختارت جدته لأبيه اسماً قبل أن يولد ـ وڪان والده لا يرد لها مطلباً ولا يثني لها أمراً ولا يخالف لها رغبةً ـ ورغبت أمه بتسميته علىٰ اسم أخيها الذي يڪبرها وڪانت تحبه ڪثيراً ، ورضخت أمه لإقتراح جدته ، فهو : „ رفيقي ” أقرب إلىٰ أهل أبيه مِن أهل أمه ڪما صرحت بذلك مراراً ، وأراد مَنْ ڪَوَّنَهُ -سبحانه- في رحمها أن يولد بعد مولد نبي الإسلام : « محمد » ؛ بثلاثة أيام وفق التقويم الذي أقره فبدء به تحديد أعوام الدولة الإسلامية الخليفة الثاني الفاروق عُمر بن الخطاب العدوي.. وفي آخر لحظات مساء يوم المولد العجيب للــ : « سيد المسيح عيسى ابن مريم » ؛ -عليهما الصلاة السلام- ، وبداية يوم جديد وفق تقويم الكنيسة الغربية.. الروم الكاثوليك.. وهڪذا فبدلا مِن أن يسمىٰ بــ: « يوسف » ؛ كما رغبت أمه التي حملته تسعا { كُرْهًا } ..ثم..{ وَضَعَتْهُ كُرْهًا } سُمي بــ الـ : « مصطفىٰ » ؛ ڪما أرادت جدته ..
ويظهر أنه .. „ رفيقي ” تحسس أو شعر بخصوصية المسمىٰ : « المصطفىٰ » ؛.مِن باب الاصطفاء والاجتباء الارتضاء والاحتباء.. فڪان يشعر في ذات نفسه بخصوصية ما .. فقد أخبرني ذات مساء بعد العشاء ونحن نحتسي ڪوبا مِن الشاي في بدايات دراستنا في الغرب أنه ذهب يبحث عن مَن وُلد في هذا الشهر.. فــ أخبرني أن رجل العلم والسلام : „ محمد أنور السادات ” ثالث رئيس لجمهورية مِصر العربية وُلد في يوم مولده ؛ وهذا في بلاد العرب.. مِصر : أم الدنيا.. أما في بلاد الغرب فوُلد : „ بيل كيلنتون ” [(*)] الرئيس الأمريكي الثاني والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية
عاش „ رفيقي ” في مسقط رأسه.. بلده : « „ الْإِسْڪَنْدَرِيَّةِ ” » ؛ حيث اختلط فيها الدين بالعرف والتقاليد وبالعادات ، والموروث الثقافي أحيانا يمتزج دون غربلته أو تحقيقه أو مراجعته بالوافد الجديد القادم مِن الغرب أو الشرق دون النظر لإختلاف البيئة وبلد المنشأ أو الوسط الذي تواجد فيه هذا القادم الجديد ونشأ فيه سواء عُرف ڪان أو تقليد أو عيد أو احتفال أو ملبس أو طعام ، ومرفأ « „ الْإِسْڪَنْدَرِيَّةُ ” » ترسي عليه سفن ڪل شعوب الأرض ، والشعب المِصري يُشهد له بالتدين منذ قديم الأزل ، وامتزاج الشئ بنقيضه في مناخ واحد وبيئة واحدة بل في شارع واحد ڪخمارة لبيع الخمور المحرمة بالقرب من مسجد ڪمستودع ماسخ للخمور بالقرب من جامع القائد إبراهيم شڪَّل شخصيته ، فلعب الدين وما عليه اليوم أهله مِن موروثات دوراً جوهرياً وحيوياً في ترڪيبته النفسية والمزاجية ، وآثر في وجدانه وشڪّل مشاعره تجاه بعض القضايا دون بعضها ، بيّد أن الوافد القادم الجديد الثقافي منه والفكري أو الإجتماعي والسياسي وإطلاعته الڪثيرة والمتنوعة وطريقة معينة أخذها بالدرس في فهم الدين آثر ڪل هذا في بناء عقلية خاصة به ولأمثاله ، تُلحظ الفارق بين التربية التقليدية المتبعة وما ينتج عنها من نمطية تفڪير رجعية عند الغالبية يشوبها الخوف .. وبين التربية العقلية والإدراڪية الاستيعابية ويعلوها التقارب والمتمثلة بنمطية فهم عصري يقرب الموروث وما علق به من شوائب دون أن ينڪره أو يهمله أو يرفضه بل يغربله أو يصلحه أو كما قيل له :" وضع الخط المستقيم بجوار الخط المعوج " ، فيقترب مما عليه القوم بقدر ما يقترب مِن العلم بأدواته وأدلته القطعية في ذهن إنسان يحترم آدميته فيرتقي بإنسانيته ويقدر تعدد القوىٰ العاقلة بداخله أيما تقدير ، ويؤڪد وجود آدمية غيره وبشرية سواه ، بيد أن إختلاف طريقة التربيتين -التقليدية الموروثة دون غربلتها والحديثة العلمية مع مراعاة الموروث الديني والتاريخي والثقافي- يتأتىٰ عن اختلافهما أحياناً ڪثيرة مصادمات فڪرية وهذا أدنىٰ الصدام.. دون الصدام الدموي أو تصفية الآخر .. كما حدث عندما أرادوا تصفية د. طه حسين معنوياً أو تصفية نجيب محفوظ وجودياً بقتله.. دون فتح حوار للنقاش الهادئ لفهم ما ذهب إليه الطارح لفكرة غريبة في مجتمع محافظ رجعي .

[ 24 ] « معلمته الأولىٰ درس العصر و سندرة النساء »

حتىٰ الرابعة الإبتدائي في مرحلة دراسته الأولىٰ ڪان تلميذاً.. فقط تلميذاً لا يدرك عن الحياة الڪثير بل قد لا يدري عن الحياة شيئاً إلا مِن خلال جدته لأبيه : « „ معلمته الأولىٰ ” » ؛ فــ دربته ڪيف يسلم علىٰ النساء وڪلهنَّ في عُمْرِ جدته وڪلهنَّ أرامل فقدنَّ الخل والخليل وفقدنَّ العاشق النبيل والمحب القريب، ورفيقي ڪان يحسن تحيتهنَّ والحديث معهنَّ فهو بحق الصغير المدلل .. ولهدوئه ولدماثة خلقه ڪان مقرباً من زميلات جدته في درس العصر بمسجد جامع : « سلطان » بالقرب مِن شارع الراوي ، شارع عائلة أمه وحارة بيت أبيه مِلك جدته وكانت دون اسم يذكر وأطلق عليها : « „ حارة حَلَابُو ” » ؛ - و لا يدرك أحد مَن هو المدعو حلابو- الواقعة بـــ باب عمر باشا ، والمسجد واقع في شارع : « „ عمر بن الخطاب ” » ؛ والدرس يلقيه الشيخ: « „ أحمد ” » ؛ و „ رفيقي ” لا يذكر عنه أي شئٍ ..
وغالباً ما ڪان يغفو „ رفيقي ” لصغر سنه فــ ينام .. فتأخذه القريبة إليه من زميلات جدته وتحمله بحنان لينام في حجرها وينعم بنعومة حرير : « „ الملاءة اللف الْإِسْڪَنْدَرانيَّةِ ” » ؛ ڪغطاء له في الشتاء .. أو « „ الطرحة ” » البيضاء .. غطاء الرأس في فصل الصيف ، وڪلاهما -الملاءة والطرحة- يحملا رائحة خاصة ما زال يذڪرها ليومه هذا ، رائحةٌ تشده شداً من زميلة جدته لآخرىٰ تشبه رائحة عطر جدته الحجازي ، عطر المسك الأصلي .. وهو الذي أعتاد علىٰ شم رائحة النساء الأرامل حين يجذبَنَّه جذباً بالتقبيل والأحضان ـ فهو الأبن الوحيد للعائلة ..
„ رفيقنا ” هو ابن الخال الحنون والذي ڪان -والده- يُڪرم بنات أخته الوحيدة غير الشقيقة ـ عمة رفيقي ـ وڪان يضيِّف أفراد العائلة وبالتالي ڪان يُڪرّم ابنه لڪرم أبيه ـ وإن ڪان أحيانا يلعب مع أبناء أخواله ولعلها مرة أو مرتين في الإسبوع لذلك فهو معتاد علىٰ رائحة فساتين النساء عن قرب ، خاصة أقمشة الحرائر الفاخرة .. وذلك الملمس الناعم الرقيق للـ : « „ ملاءة اللف الحريرية الْإِسْڪَنْدَرَانِيَّةِ ” » ؛ وڪنَّ مِن هوانم المجتمع -وقتذاك ـ فبعولتهن من ڪبار التجار ـ يلبسنَّ الحرير الفاخر ويتفحصهنَّ جودته ويعلمنَّ الردئ منه من الجيد .. ويتعطرنَّ بمخلوط مڪة المڪرمة والمدينة المنورة في أيام العطر الزيتي الأصلي ، وأما غالب هذه الأيام فيشم العطر الأفرنجي الممزوج بالكحول أو ما يسمىٰ بالڪولونيا من محلات : „ داود عدس ” ؛ اليهودي قبل التأميم في العهد الناصري أو معرض : „ بنزايون ” ؛ ، أو : „ عُمر أفندي ” ؛ وڪانت فسحته الوحيدة إلىٰ المسجد حتىٰ ذلك الحين ، وقد ڪانت تڪرمه جدته لأبيه لڪرم وبر والده لها وحفاوته بها وحبه الشديد الظاهر للعيان لها..
.. وهڪذا لعبت وحدانيته في عائلته الصغيرة دوراً بارزاً في نشأته بين نساء العائلة .. وكنَّ جميلات يحملنَّ بشرة ناصعة البياض وآحداهنَّ كانت من جميلات جبل لبنان .. أضف زميلات جدته في مسجد سلطان وكان دائماً على أنفه عطور النساء علىٰ أختلاف الأذواق والمارڪات وعلى ملمس خده أو بنان اصابعه الصغيرة أنواع الحرير الفاخر الهندي أو المصنع محلياً .
وهو الذي ڪان ممنوعاً من اللعب مع أترابه في الشارع الذي يسڪن فيه بأمر أمه وحجتها ڪانت : „ حتىٰ لا يوسخ ملابسه ولا أظفار أو أصابع يده ” .
كَلامٌ مُقْتَضَبٌ .. وبهذه الصورة الموجزة عاش في مجتمع الحريم سواء الجدة لأبيه أو أمه في منزل أبيه ، أو العمة أو الخالة في البيت الڪبير بيت جدته لأمه بشارع الراوي والقريب مِن منزله ، وبالطبع يتعايش مع نساء اعمامه اللآتي يسڪنَّ في نفس منزله وخلاف ذلك فلا عالم آخر له .

وڪان يرغب في زيارة اقرباءه خاصة الأرامل منهنَّ ، ڪـ أرملة خاله : « يوسف » ؛ أو أرمله خاله : « إبراهيم » ؛ وڪان يتردد ڪثيراً علىٰ نساء أعمامه ، ويجلس منشرحاً بينهنَّ ، محسناً الحديث مطولاً في جلسته وڪان متأدباً يحسن الحديث معهنَّ ، وڪأنه يختار أوقات تڪون فيها أعمامه أو أبنائهم في العمل أو غير موجودين ، أو هڪذا كان يحدث .

[ 25 ] « القميص الحرير »

جرت العادة عند المسلمين أن يُشترىٰ الجديد من الثياب في الأيام الأخيرة من شهر الصيام ويلبسها الڪبير قبل الصغير في وقفة العيد ويؤدي بها صلاته في الجامع الڪبير ، ثم يذهب الصغار بعد أداء الصلاة مع الأب والعم لزيارة الأموات في مقابر العائلة بمنطقة تسمى : « العَمود ” » ؛ لوجود مسلة فرعونية بالقرب من الباب العمومي لمقابر مدينة الْإِسْڪَنْدَريَّةِ القديمة.. لــ يعيِّد الأحياء علىٰ الميت خاصة ڪبار العائلة ڪـ الجد أو العم الڪبير أو الجدة أو مَن سڪن القبور مِن أهلهم المقربين ، ثم يذهب الڪل بعد ذلك ليبارڪوا بالعيد السعيد الأحياء ..
وفي آحدىٰ المرات أشترت الوالدة له قميصاً حريراً أو قماشاً غالياً وفصلته عند الحائك ولبسه ، وذهب لزيارة الخالة : « أم حسن » ، فڪانت الزيارة تبدأ ببيت عائلة الأم لقربه من بيته ، فسألته خالته :
„ أنتَ لابس القميص الحرير الجميل ده لمين !؟ ” ؛
وقد تعلم „ رفيقي ” من مدربه في الأڪاديمية في فيينا الدكتور „Bolz“ إنه لا يوجد اسئلة ساذجة بل توجد أجوبة ساذجة ، الإجابة علمها من حديث أمه معه ، فهو ـ ڪما أخبرني - لا يذڪر الواقعة ولا يذڪر بالتالي القميص الحرير الجديد الفاخر ، ولا لونه غير أن إجابته لخالته ڪانت :
„ ألبس القميص الحرير الجديد لأعجب الستات الحلويين ” ..
هذه رواية الوالدة ، ولا يدري أي : « „ ستات ” » !؟؛
و لا أي : « „ حلويين ” » !؟؛ قصدَ هو أو قصد من لقنه الإجابة ..
وهنا يأتي دور التلقين ؛ ومنذ حين من الزمان صار داخل البيوت والشقة المغلقة التليفزيون ومنصات التواصل الاجتماعي وسائل تلقين للصغير بدلا من الأم و المعلم!

[ 26 ] « من سنن الأنبياء .. الختان »

وهذه أيضا رواية الوالدة وإن ڪان يوجد دليل مادي ملموس علىٰ صحة روايتها ، وأحداثها تمت وهو تقريباً حين تجاوز سن الرابعة بقليل وڪأحد أبناء المسلمين يُختن الصبي قبل أن يبلغ أَشُده .. والختان من سنن الأنبياء ڪما عُلم لاحقاً ..
والرواية بڪاملها لا يتذڪر منها شيئا سوىٰ : « „ الدليل ” » المادي القطعي الثبوت علىٰ صحتها .. : « „ صورة العُرس ” » !.


[ 27 ] « ختان... فــ ليلة عُرس »

تم الختان عند الطبيب الدكتور : « محمد عبدالوهاب » ؛ في الوَسَعَايَّة بـ: « باب عمر باشا » ؛ بجوار السينما المحروقة ،
فـ الوالدة ڪانت المرأة الأولىٰ في عائلة أبيه أو عائلة الأم والتي تضع جنينها بعد أن اكتمل برحمها طفلاً في مستشفىٰ متخصص لطلبها هذا ، وهي نقلة نوعية في طريقة التفڪير عند نساء مِصر في هذه الفترة الزمنية ـ أوائل الخمسينات مِن القرن الماضي ـ وسلوك المرأة ، ومستشفىٰ : « دار إسماعيل » ؛ بشارع الخديوي ڪانت تحت الرعاية الإنجليزية .
أما طاقم الدڪاترة فڪان مِصري والقابلة المولدة„Midwifery“ إنجليزية وهي مِن الراهبات وبجوارها تعمل مولدَّات مِصريات ، فالولادة تمت بمستشفىٰ تخصصي وليس ڪما تفعل نساء العائلة أمام الداية " القابلة " „Hebamme“، ويرىٰ الجنين نور الحياة علىٰ أيدي القابلات ، وأيضا تم الختان عند الطبيب ، وليس حلاق الحي أو تمرجي المستشفىٰ .. وبعد الختان وإلتئام الجرح تم حفل عُرس حقيقي في الصالة الڪبرىٰ بمسرح المواساة بمحطة الرمل المقابل لميناء الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ الشرقي وبجوار تمثال الزعيم : « „ سعد زغلول ” » ، الذي أعطىٰ وجهه للبحر ميمناً جهة الشمال وإلىٰ القارة الأوربية تحديداً ، وحين سأل عمه „ سعدالدين » ؛ أصغر الأعمام سناً وأوسمهم:
„ ليه ياعمي ، سعد زغلول مدِي وشه للبحر؟ ” ،
فرد عليه قائلا :
„ سعد قال لمراته صفية : غطيني يا صفية ، ما فيش فايدة ، أنا عاوز أنام ” »(!!!) .
ومع أنه لم يفهم الإجابة .. لم يعد السؤال ، فلقد أقترب من باب المسرح وحضرت العروس بثوب الزفاف وطرحة العُرس علىٰ رأسها ، وهذه رواية زوجة عمه .

المناصفة في العروس
والطريف أن العروس ڪانت بــ : « المناصفة » ؛ وڪان له فيها : « شريكا » ؛ حقيقيا ، فهي جلست في الوسط وعلىٰ يمينها عريس وعلىٰ يسارها عريس آخر ، وهو „ رفيقي ” لا يتذڪر هذا العُرس ولا المعازيم ولا راقصة البطن المشهورة والتي جاءت لتحيي الحفلة وهو معتاد في الأفراح آنذاك والآن ،
أقصد تأدباً وتحضراً فنانة الرقص الشرقي ، حيث أن بعضهن اليوم مِن حاملات الشهادات الجامعية ، هذا قبل عصر الصحوة الإسلامية وعودة الإسلام المسيس ڪما يدعي البعض ، ولڪنه يذڪر جيداً شريڪه في عروسته فهو ابن عمه „ أحمد ” ؛ الذي يصغره بستة شهور ، والعروس يذڪرها جيداً وإن سعت أن تخفي شيئا ما حين يتقابلا وتطمس معالم العُرس من الذاڪرة في محاولة فاشلة منها وهو يذڪرها دوماً بقوله :
« „ أنتِ كنتِ عروستي! ” » ؛
فالعروس هي الأبنة الكبرىٰ لخالة ابن عمه : « „ نورا ” » ؛ وهي الفتاة الڪبيرة نسبياً ولڪنها المناسبة لهما ، وقد وقف ببدلة العُرس السمراء والقميص الأبيض الزاهي ورابطة العنق وهي بجواره تتأبط يده وعلىٰ رأسها تاج العروس وزهور الدانتيل الجميلة ، مناسبة أرادت أمه أن تخلدها في ذاڪرته من خلال روايتها له ، وتبحث معه عن الصورة بين ڪومة مِن الصور التذڪارية .

[ 28 ] « المدرسة الفرنساوي »

أراد أبوه أن يلحقه بروضة الأطفال ڪي يُعد بعد ذلك لدخول المدرسة الفرنساوي : « سانت يوسف » الإبتدائية خلف مدرسة : « الصوري » الإبتدائية الحڪومية ليتمڪن مِن الفرنسية ڪلُغة ثم يڪمل تعليمه بڪلية : « سانت مارك » بالرمل متجها بعد التخرج إلىٰ فرنسا ليدرس الحقوق ثم ينخرط في سلك المحاماة ، هذا ما أراده الوالد .
إدارة المدرسة الفرنساوية قبلت أوراقه قبل إتمامه سن الخامسة وصار طفلاً في روضة الأطفال ، وڪانت المدرسات راهبات فرنسيات ـ ڪما تروي أمه له ، وهو لا يذڪر هذه القصة بالمرة ـ

[ 29 ] « المحمدي .. في مدرسة الراهبات الفرنسيات »

وفي صباح آحدىٰ العطلات -لا يذكر „ رفيقي ” أي مناسبة لهذه العطلة- وعلىٰ مائدة فطور العائلة وأمام جدته لأبيه قام بأداء صلاة قبل تناول الطعام ڪما تعلمها في الروضة الفرنساوية الملحقة بالمدرسة ، صلاة النصارىٰ ، صلاة الشكر ثم قدس نفسه بالتصليب على صدره، وأخذ يترنم بڪلمات فرنسية ، جُمل مما حفظها علىٰ مائدة الراهبات الفرنسيات ليقولها قبل تناول الطعام ولا تفهمها والدة أبيه .. فاشارات بيدها إليه وباصبع الإتهام ووجهت القول لأمه مزمجرة غاضبة قائلة :
„ شوفي .. يا عِيشَه ـ اسم أمه ـ الولد مش راح يعرف عربي ، حيتڪلم فرنساوي ذي ولاد الخواجات ، وبيصلي صلاة النصارىٰ وأحنا في بيت مسلم ، لازم يسيب المدرسة دي!؟ ، وشوفي ڪمان يا عائشة سحنة وشّه عامله ازاي ، ذي عُبَّاد الصليب !؟ ، وأل آيه اسمه الـ مصطفىٰ !! ” .
ودون نقاش يذڪر ـ ڪما أخبرته أمه ـ سمع الوالد ڪلام أمه - جدة الصغير- وترك الغلام الروضة الفرنسية ، وهو غصن أخضر وعود طري لا يفقه مما قالته جدته لأبيه حرفاً أو معنىٰ ، بيد أن أمه تذڪره دوماً بقولها له :
„ إنها غلطة ! ، أن تترك هذه المدرسة ، ربنا يسامح جدتك ، ڪان مستقبلك حيڪون حاجة تانية ” .
هذا القول قد يڪون الخلفية الذهنية في رغبته أن يتمم تعليمه العالي في بلاد الفرنجة ـ ڪرغبة الوالد ـ والتي منعته جدته في طفولته من الإقتراب من أهل الغرب أهل العلم علىٰ ڪامل التراب المِصري .


[ 30 ] « المعلم الأول

معلمه الأول بالمدرسة الإبتدائية الحڪومية يدعىٰ الأستاذ : « „ فؤاد ” » ، الأن لا يذڪر عنه سوىٰ اسمه ..
بلىٰ! ـ
يتذڪر „ رفيقي ” ويڪمل القول ـ بل أذڪرُ أيضا هيئته ، بدلته ، مشيته ، هدوئه ، أدبه الجم ، ثم يعلنها بوضوح تعلمتُ منه الڪثير ، تعلمتُ منه ڪيف أتحدثُ بهدوء ، وأنظرُ إلىٰ عينيّ محدثي ، والعرب تحسن الحديث بضوضاء فنحن نتحدث بصوت عال ڪخطباء الجمع و وعاظ المنابر وزعماء الساحات والميادين ، وجنرالات المقاهي ، وجمهور مباريات ڪرة قدم الدرجة الثالثة ، الأستاذ : « „ فؤاد ” » ڪان مسيحياً ، ولم نكن وقتها ـ عام 1957 تقريباً ـ نفرق بين مسلم ومسيحي في “Ägypt „ إلا إذا وجد الأفرنجي بيننا ، ولم نلحظ ونحن تلاميذ الإبتدائي أي تدخل أو توجيه منه ـ قصد رفيقي الأستاذ فؤاد ـ في طريقة إيماننا ، ولم يتحدث مطلقاً عن السيد المسيح غير أن ما في القلوب من إيمان وڪره وحب وعقيدة يظل في القلوب ، وهذا ما أظهرته الأيام الحوامل من مِصريي المهجر والمهاجر المسلم.
الأستاذ « „ فؤاد ” » ؛ عيَّن „ رفيقي ” أحد قضاة الصف الدراسي ، والدمرداش ـ والذي صار بعد ذلك طبيباً جاء لزيارتنا مرة وعمل بدون آجر في المستشفىٰ „AKH“ الفيّناوي ، والقاضي الثالث لا يذكر اسمه الأن ـ أصبح بعد ذلك ضابطاً في الشرطة ومن رجال الأمن ، وهو مسيحي ..
ثم يخبرني „ رفيقي ” بقوله : « „ ڪانت ثلاثتنا قضاة الصف ، فمن يخطأ من التلاميذ نصدر حڪماً عليه وڪنا نرتدي وشاحاً أخضراً نضعه على الكتف يربط أسفله في وسط مريلة المدرسة الابتدائي الموحدة علامة علىٰ أننا القضاة وڪنا بالطبع نفتخر بهذا ” »

[ 31 ] « عيسىٰ »

أختار أصدقاء وزملاء والده له أسماً آخراً غير اسمه الحقيقي ، فڪانوا ينادونه في أروقة المحڪمة بـ: « „ عيسىٰ ” » إثناء وجوده معهم في العطلة الصيفية ، إذ تصادف مولده في نفس اليوم الذي يحتفل نصارىٰ الغرب بمولد: « „ السيد المسيح ” ».. ويظن „رفيق ” أن صاحب فڪرة تغيير الاسم من المصطفىٰ إلىٰ عيسىٰ هو الاستاذ : « „ أدولف فرج.. أمين مڪتبة المحڪمة الحقانية ” » ؛ وڪان عمله في العطلة الصيفية هذا عقاباً له ، لأنه لعب مع بنت جيران خالته « „ أم حسن ” » دور „ الطبيب ” ، وقفشهما عم الطفلة „ المريضة الحامل ” علىٰ سطح بيت عائلة أمه وهو يمارس " مهنته "، وحادثة « طبيب التوليد » هذه ڪانت في نهاية مرحلة الإبتدائي وفق نظام وزارة التربية والتعليم القديم .


[ 32 ]« رامون خوسيه »

بين حقول جنوب فرنسا لڪروم العصر لصناعة النبيذ سماه العجوز الإسباني الذي ڪان يعمل معه أسما جديدا يناسب أسماء الأسبان ، حين سافر في العطلة الصيفية إلىٰ فرنسا إثناء الدراسة في جامعة حلوان فرع الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ، إذ لم يجد فرصة عمل مناسبة له أو غير مناسبة في عاصمة النور : « باريس » ؛ فعلم أن موسم قطف العنب علىٰ وشك القدوم ، وليس أمامه مِن حل سوىٰ أن يقطف العنب في موسمه ليغطي مصاريف الرحلة حيث أن العطلة الصيفية أوشڪت علىٰ الإنتهاء وحتىٰ لا يعود فاشلاً غادر باريس في إتجاه الجنوب ليجمع بعض الفرنڪات ليثبت أمام الوالد الذي ڪان يرفض سفره ، أنه ... رجل ، و: « „ رامون خوسيه ” » ؛ هو الإسم الذي ڪان يستخدمه حين يتعرف علىٰ بنات الغرب وخاصة السيدة ضفيتنا .

[ 33 ] « السينما »

لعبت الشاشة الفضية „ السينما ” دوراً غير مباشر في تڪوين شخصية „ رفيقي ” » بشڪل تلمسه إن اقتربت منه ، فهي - „ السينما ” رفعت نسبة الخيال والتصورات غير الواقعية في ذهنه وشڪلت بصورة أو آخرىٰ جزءً من شخصيته وفي نفس الوقت أقنعته بوجود حلول سحرية ومخارج من الورطات في ڪل لحظة ووقت ڪما يحدث في معظم الأفلام ، وهناك العديد من الروايات والقصص التي قدمتها الشاشة الفضية أثرت في شخصيته وتقمصها أحيانا ، ثم أوجد لنفسه شخصيته الحالية التي نعرفها ، الوالد اراد له بصورة غير مباشرة أن يعرف العالم الآخر من خلال أفلام هوليوود ، فإذا حصل علىٰ درجة جيدة في مواد الدراسة ڪُفِءَ بالذهاب إلىٰ السينما الحفلة الصباحية ، وحفلة الثالثة بعد الظهر ڪانت ترويحاً عن أمه فڪان يرافقها لترىٰ الفيلم العربي ، وإختلاف نمطية العيش والعرض وطريقة الحياة والحبڪة الدرامية والإخراج والتصوير والإمكانيات المتاحة وقدرات الأبطال في تشخيص أدوارهم بين فيلم الصباح : « „ الغربي ” » الهوليودي وفيلم الثالثة بعد الظهر : « „ العربي ” » والمصنع مِصرياً ، جعلت „ رفيقي ” يميل بالطبع للأفلام الغربية ويجد في نساء الغرب الشقراوات وهذا الدلال وأسلوب الغزل المدرسة العملية لرجل الغد .

[ 34 ] «قصة عذاب وآلام السيد المسيح عليه السلام»

جرت العادة أن يحضر بمفرده ڪل عام في سينما : « „ فؤاد ” » بشارع الملك فؤاد الأول ، طريق قناة السويس لاحقا في احتفالات شم النسيم وعيد الفصح فيلم : « „ حياة وآلام السيد المسيح ” » برغبة من والده وقناعة منه ، ولعل أحداث الفيلم لعبت دوراً غير مباشر في شخصيته فيما بعد .

[35 ] « غياب المعلمة الأولىٰ من حياته »

اصطدم بتغيّر أسلوب الحياة حين عاد مِن السينما عصراً في أول أيام عيد الأضحىٰ المبارك فوجد أمه بملابس السواد والحداد وتبڪي وقالت بدموع على خدها وبيدها منديل مبلل بتلك الدموع ..قالت له:
« „ ستك .. ماتت .. يا مصطفىٰ !! ” » ،
لم يدرك معنىٰ الڪلمة وإن سمعها مرات مِن قبل ، وتعطل دور هام ڪانت تقوم معه : « „ سته ” » ؛ وبدون أن يدري أنتقل إلىٰ دور جديد عند خالته : « „ أم حسن ” » ، فڪان يتردد ڪثيراً عليها .

* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
[(*)] 19 أغسطس 1946 العمر الأن 76 سنة؛ أركانساس، الولايات المتحدة
ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ
رواية : «... الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ... »
30 يناير 2023

18 - ليل طويل ساهر

ألْمَحَت المرأةُ مِن وجهها: أمكنتْ مَن أْن يُلْمَح.. تفعلُ ذلك الحسناءُ تُرِي محاسنهَا مَنْ يتصدَّىٰ لها.. وتشعر فتحس برغبته منها.. ثم سرعان ما تُخْفيها.. تحت برقعٍ أو حجابٍ أو غطاء للرأس.. ساتر لوجهها.. وقد تُمعن في الإخفاء -ظاهراً- وإن ارادت أن تُبين مفاتنها وفق مظهر غريزة أنوثتها المتمكنة منها.. من خلال الملاية اللف « „ الْإِسْكَنْدَرَانِيَّة ” » فــ ترغب أن تخفي نفسها خلفها.. فتلم الملاية جيداً وتحبكها بشدة حولها وتحكمها.. وفي الحقيقة هي تريد كشف المحاسن وإخفاء العيوب.. وقلما توجد في المرأة عيب!
مُحَمَّدٌ الرَّمَادِيُّ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ

« ليل طويل ساهر »خرج „ رفيقي ” بعد تناول وجبة العشاء في كامل إناقته متعطراً بعطر المساء؛ وهذا العطر تركيبته الخاصة به لا تجدها في محلات بيع العطور فهو يَخلِطه بطريقته وغالباً ما يتم بعد أداء صلاة الفجر مستحماً.. فهو „ رفيقي ” له طقوس لم يغيرها أو يبدلها منذ زمن بعيد.. هذا العطر يسميه بين معارفه « „ عطر الشباب والرجولة ” » والذي جلبه خصيصاً مِن المدينة المنورة التي هاجر إليها نبي الإسلام ثم دفن بها ولم يدفن في مسقط رأسه؛ « „ مڪة ” » ولعلها إشارة واضحة لمن يكلف نفسه بنقل جثمان قريب به أو يوصي لنفسه بالدفن فيدفع مصارف تلقىٰ علىٰ تراب الأرض لرغبته أن يدفن بجوار الأباء والأجداد..
.. أحضر „ رفيقي ” عطره مِن المدينة التي طيَّب الله تعالىٰ هواءها وثراها بأن مشي خاتم رسله ما يزيد عن عشر سنوات فوق ترابها وفيها.. ثم زاد الهواء والثرىٰ والبقعة طيباً بمرقده وبجواره صاحبيه ووزيريه « الصديق » و « الفاروق »؛ و „ رفيقي ” يعتقد أن عطر المدينة المنورة أطيَّب من عطر سواها من أمَّات المدن وحَضر الأقاليم في مشارق الأرض ومغاربها.. والمرء منا له ما يعتقد في صحته طالما أنه لم يخالف ما ثبت بتواتر نقل أو بما هو قطعي الثبوت..
.. خرج „ رفيقي ” يتمشىٰ لا يقصد مڪاناً بعينه غير أنه قابل „Sylvia“ ومعها „ Maria ” في الطريق حيَّاهما بتحية المساء.. وأڪمل الطريق مسرعاً.. مظهراً أنه سيذهب لمڪانٍ ما ينتظره أحد فيه أو عنده موعدا هاما لا يصح أن يـتأخر عنه.. وڪأنه يُمني نفسه بلقاء سيدة القاعة المجهولة!
يخبرني „ رفيقي ”؛ أنه كان متأڪداً أن المقابلة مع النزيلة الجديدة المجهولة ستتم حتماً بالرغم من أنه لا يدري رقم غرفتها ولا اسمها ولا أي شئ مرتبط بها..
ظن أنه في صباح الجمعة سيقابلها عند تناول الفطور في قاعة الطعام الكبرىٰ ، لكن لم يحدث!؟ ..
أين هي إذاً! ؟
.. أخذ يفڪر.. ويفڪر!
ما الذي جذبه إليها!؟..
ما الذي بهذه السيدة المجهولة جعله هڪذا يريد أن يراها!؟..
ويريد أن يتحدث معها!!.
رغم أنها غريبة عنه!!
لم يرها من قبل.. ولڪنها.. هي تلك المرأة التي يريد أن ينظر إليها بل يرغب أن يمعن النظر في وجهها الصبوح ويقلب ناظره فوق شعرٍ ذهبي ملقىٰ علىٰ ظهرها وبين بياض بشرة ونعومة أطراف.. يريد أن يتحدث معها وإليها، ويجلس بجوارها..
.. العجيب أنه مڪث أڪثر من إسبوعين في منتجعه الصحي التأهيلي ولم يلفت إنتباهه امرأة.. والنساء ڪثيرات.. وعلىٰ طاولة الطعام ڪان دائما تجلس بجواره نساء أو حوله أو في سيره بين طرقات المنتجع التأهيلي أو في الشارع خارج المصحة، وڪن نساء يحملن مواصفات الجمال في قاموسه الذڪوري .. ڪــ :
- الشعر الشمسي، ڪــتاج ذهبي فوق رأسها يتلألأ ضياءً
- بياض الجسد الخلاب ڪحَلْبَةِ الفجر : الحليب الطازج الڪامل الدسم ،
- الطول المعتدل ،
- القوام الرشيق ،
- الصوت الملائڪي ،
- العطر الجذاب الذي يفوح في المڪان ڪأنه خرج للتو من أڪمام الزهور.. ونبع حالاً من بين أوراق الورود
ومع ڪل هذا لم يڪن ير أمامه نساء إلىٰ أن قدمت هذه المرأة المجهولة..
.. إنها تملك هذه المغناطيسية ذات الجاذبية العملاقة، والتي لا يملك إلا أن يتقدم إليها ويقف أمامها منحنياً ڪــأنه أمام أميرة مِن أميرات القصر الإمبراطوري الهابسبورجي مُقَبلاً يدها ـ إذ سمحت ـ .. وغالب النساء يعجبهنَّ هذا النوع من الترحاب وهذا القدر من التحية؛ وهذا القدر من الاهتمام..
وهو „ رفيقي ” يعجبه -جداً- هذه المجاملات؛ ثم ويطلب منها أن تبادله الحديث من خلال خطوات في طريق يحدد هو معالمها بعد التعارف..
مضىٰ اليوم سريعاً وجاء الليل.. وذهب إلىٰ مخدع نومه يحلم، فليس أمامه سوىٰ حلم جميل طويل؛ قد يستغرق منه الليل كله!
-*/*-
**[ 19 ] « القدر »
.. وقدراً يراها أمامه، في منتصف يومه التالي لمجيئها، تطل ڪـشمس الصباح المشرقة لطيفة الحرارة رقيقة الأشعة لا ترهق النظر بقدر ما تفتن الناظر إليها فتشرأب أعناق الزهور لطلتها وتتطاول عيدان الورود لأشعتها، وبرائحة الزهرة الندية تعبق المڪان، تتهادىٰ في مشيتها ڪأنها تقول له :
« „ أنتظرتك طويلا ، أين ڪنت! ” »؛.
إنها تتحدث بعينيها الزرقاويتين دون أن تحرك شفتاها، دون أن تنطق بحرف أو بڪلمة واحدة.. رأها وأخيراً وجدها أمامه وفي مسافة قريبة جداً منه..
رأها بعد أن جلست وهي ترتدي قطعة السباحة الواحدة، قطعة سمراء.. سوداء تكاد تغطي مساحة عريضة بيضاء .
امرأة يظهر مِن الوهلة الأولىٰ أنها تتخيَّر ملابسها.. حتىٰ قطعة السباحة التي تغطي مفاتنها.. أو بتعبير أدق تڪشفها، فهو لا يملك إلا أن ينظر إليها وهو ينظر فقط لعينيها..
قطعة السباحة التي ترتديها ڪأنها فُصِلَتْ لها خصيصاً، ڪأنها ترافق جسدها منذ لحظة خلقها ڪامرأة، منذ لحظة مولدها ڪأنثىٰ، لا تحتاج إلىٰ ضبط أو تعديل ولا تدخل بين ثنايا الجسد في مناطق تحرجها، ولا تظهر ما لا تريد أن تظهره ولڪنها ڪغلالة رقيقة تڪسيها، ڪورقة التوت نمت علىٰ قدر حجم بضعة من جسدها..
تقابلا هڪذا دون ملابس المدنية الحديثة ودون تلك القطع الصناعية ودون قطعة قماش تسمىٰ بدلة أو قميص أو فستان أو جلباب يحشر المرء جسده فيها أو رابطة عنق يقف خلفها إنسان، ثم بعد مرور قليل من الوقت تمتلئ الثياب برائحة العرق أو العطر حسب مَن يرتديها.. وبدون جوارب ذات ألياف صناعية أو أحذية جلد أصلي أو بلاستيك!
فــڪان.. إذاً.. موعدهما الأول هڪذا..
أُريد -القدر- لهما أن يلتقيا دون ملابس الزينة أو طواقم الثياب ودون إڪسسوارات الموضة أو تدخل صناع الموضة حسب المواسم ووفق الأزمان أو مكملات ما يرتديه الإنسان في عصر أن الملابس تصنع إنساناً ودون تقليعات بيوت الأزياء العالمية أو المحلية، سواء غالية السعر أو باهظة الثمن أو رخيصة تلبس لمرة واحدة ثم تلقىٰ في أول كيس للمهملات..
تلاقيا هكذا ڪــ « آدم » و « حواء » ،
وڪــ لحظة الخلق الأولىٰ للبشرية جمعاء.. دون وجود إبليس اللعين -فقط- برفقة الملآئكة..
ولحظة التعارف بين ڪائنين مختلفين لڪنهما يڪملان بعضهما البعض..
لحظة الإحتياج الروحي
ولحظة الشوق الجسدي
ولحظة الراحة
لحظة الهدوء النفسي
ولحظة السكينة
لحظة يبدي كل منهما للآخر مودة
لحظة أن تشبع الروح فيرتوي ظمأ الجسد،
وهما بشران خُلقا بعلوية آلهية فحق أن تسجد الملآئڪة لحسن الصنعة وتمام الخلقة وليس سجود لجسد بالٍ.. بعد شراب هنيئ يبول.. وبعد لحظات من الطعام الشهي يختلي في الخلاء..
ففي أولىٰ لحظات بداية الخلق كانا يسبحان في علوٍ..
في جنةٍ عرضها السموات والأرض فيها ما لم تراه عين.. ولا سمعت عنه أذن.. ولا خطر علىٰ قلب بشر.. ولا توارد علىٰ ذهن أو عقل مخلوق.. فقد صنعهما الخالق بيده وابدع في التكوين فنفخ من روحه فخُلِقا.. وأحسن في التقويم فوجدا؛ بيد أنهما بآدمية أرضية ترابية طينية.. صلصال ڪالفخار من حمأ مسنون.. ثم هو من مني يمنى فنطفة فعلقة.. لذا فلهما متطلبات وإشباعات ورغبات وأهواء وميول وجوعات فيلزم أن ينجدلان وهما تحت نجوم السماء وكواكبها وتحت نور ضوء القمر وبعد لحظة الخلق ينجدلان تحت غطاء العفة وغلاف التقوىٰ وشغاف[(*)] ستر العورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] الأصل في الشَّغَافُ أنه غِلاف القلب، أَو سويداؤُه وحَبَّته..وهنا استعارة.
 

[ 20 ] الخطة

لم يكن متوقعاً ولم يكن في الحسبان أن يتم اللقاء الأول بين „ رفيقي ” وبين مَن أعجبته -المرأة المجهولة- مِن الوهلة الأولىٰ والتي طلت بوجهها الصبوح عشاءً منذ ساعات قلائل؛ يمڪنك أن تقول تدخل القدر أو النصيب أو ما قُسم للإنسان.. فمنذ سويعات اسرعت الخطىٰ مغادرة قاعة الطعام والأن يتقابلا وجها لوجه في غرفة ضيقة لا تسع لأڪثر من خمسة أشخاص..
« مڪان اللقاء الأول »
„Tepidarium“غرفة „ البخار المتطاير في السماء ڪالسحاب ” ذات الأصول الرومانية أو الحمام الترڪي مع التعديل، إنها غرفة صغيرة يتصاعد منها بخار وتسمع خلفك خرير ماء ينسڪب مذاب فيه أملاح، وأنوار خافتة مختلفة تتغير ڪل لحظة ڪـأنها تتساقط علىٰ جدران المڪان ڪأنها أضواء تتساقط من نجوم سماء.. تريح الأعصاب..
هي جلست في هذه الغرفة مقابل باب الدخول الزجاجي مباشرة؛ فهي أول مَن قدم ويصلح لها أن تڪون أول من يغادر.. وجلس „ رفيقي ” في رڪن منها.. يمڪنه أن يراها منه جيدا، ألقىٰ عليها التحية.. خصها بها وحدها وأخذَ يلقي نظرة تلو نظرة عليها ڪأنه يريد أن يقول لها :
„ إني أخصك أنتِ بالتحية وأخصك بالنظر ” ..
„ أخصك دون سواك ” ،
„ فلا نساء بجوارك تصلح أن أنظر إليها ” ،
„ بل لا نساء -أصلاً- غيرك في هذا العالم أو تلك الدنيا” ،
و „ أخصك دون غيرك ”
و „ أخصك دون بقية الموجودين بـ « غرفتنا »!” .
و .. النساء يعجبهنَّ هذا الإهتمام الزائد.. وذلك الإختصاص المعين.. والتخصص بذاتها.. وهو يحسن القيام بهذا الدور؛ في حالة لو أعجبته امرأة .
ما نغص المشهد الذي لم يكن يتصوره أو يظن أو يحلم بحدوثه أبداً ..
إذ .. ڪان معهما في « غرفتِهما(!) » رجلا يڪبره في العمر وأبدىٰ مباشرة استيائه منه؛ ومن نظراته لها؛ وهو يعلم عنه بعض الشئ، فشريك « غرفتهما » أدرك أن „ رفيقي ” يتحدث لغة قوم « جوته »؛ بشڪل جيد مع بعض أخطاء قواعد اللغة لا ينتبه لها إلا الدارس ذات المستوىٰ العال لقواعد اللغة، و „ رفيقي ” ينطق الألمانية بلڪنة أجنبية إلىٰ حدٍ ما فقد تعلم لغة ساڪني ضفاف الدانوب الأزرق في وسط العشرينيات من عمره ، وهو - شريك الغرفة - علم انه حاصل علىٰ درجة علمية اڪاديمية عليا، ولا يستطع أن يقول ڪلمة لها ناصحاً اياها أمامه باللغة التي تفهمها و „ رفيقي ” يتقنها، بأن يخبرها -مثلا- أن تبتعد عن هذا الأجنبي، أو تحترس من أمثاله؛ ڪل ما استطاعه وقدر عليه أن يُظهر استيائه من خلال نظراته إلىٰ „ رفيقي ”، ثم توالت الضيوف علىٰ « غرفتهما »، وقد ڪان بعضهم يعرفه فتمتم عدة مرات برد التحية ولڪن بقى تخصص التحية لها وحدها،
وابتسمت إحداهنَّ له مظهرة أنها أدرڪت أنه معجب بالمرأة الجديدة علىٰ المنتجع لم تقل شيئا سوىٰ النظرات إليه وڪأنها تشجعه علىٰ الإستمرار في تخصصه..
والنساء يحسنَّ قرأت الرسائل المشفرة بين إثنين: أحدهما رجل والآخر امرأة!
في « الغرفة » ڪل منهما يلتف بملاءته القطنية لترشف العرق وهي لفت ملاءتها حول وسطها وأردافها وساقيها وترڪت الصدر مڪشوفاً عارياً ولڪنها حين أرادت الإستئذان وانتهىٰ الوقت المخصص للبقاء في غرفة « الغاز المتطاير في السماء ڪالسحاب » غطت صدرها، فتذكر سريعاً الملاية اللف « „ الْإِسْكَنْدَرَانِيَّة ” » والمرأة تڪشف الساق أو الذراع حين تريد وتغطيهما حين تريد.. فالدلال والعفاف والڪشف والغطاء والتبختر والحجاب وڪيفية رسم الخطوة فوق الطريق وإن كان ترابي ورنة الخلخال -إن وجد- لعبتها.. فتتقنها ڪل النساء الجميلات منهن ـ وڪلهنَّ جميلات وأيضاً المرأة التي يقول عنها الرجل إذا نظر إليها إنها ليست " حسناء " .
لم يستطع أن يقول لها شيئا، بحث عن ڪلمة أو مناسبة ليبدأ تبادل الڪلمات معها، أية ڪلمات غير أن الذاڪرة توقفت عن استحلاب ڪلمه وتحجرت خلايا مخه فلم تسعفه في فك ڪلمة ناهيك عن فتح موضوع يطول الحديث به أو عنه.. فقد جف حلقه.. وبلع لسانه، وتجمد نظره إليها .. ولعل هذا يڪفي بدايةً.. أو ربما لم يرد „ رفيقي ” أن يُقحم نفسه عليها فلعلها متزوجة أو لها صديق، فنحن نعيش في بلاد الغرب، أو صديق لها.. -احتمال-.. أو رفيق حياة يعاشر المرأة معاشرة الأزواج..
فهذه مسألة شخصية، اعترف بها النظام وقررتها القوانين وسنت اللوائح الدستورية لما يترتب علىٰ هذه المعاشرة من حقوق وأغمض رجال الدين العين وأغلق الوعاظ الأذن واسڪت المرشدون اللسان عن مثل هذه العلاقة؛ فصارت عرفاً مقبولا في العديد من البلاد . . وحتى العربية/الإسلامية منها.. ولعل قصة ألفها إحسان عبدالقدوس تحولت إلىٰ فيلم « أختي » تمثيل محمود ياسين ونجلاء فتحي يثبت مقولة „ رفيقي ” .. ولعل من الصدف السيئة أن يعرض الفيلم في الفاتح (01) من يناير عام 1971م(ونحن الأن في يناير) ببلد الأزهر والكنيسة المرقسية = مِصر .. أي منذ 52 عاماً ..
قلت لــ „ رفيقي ” .. مڪشراً : « „ أليس هذا من باب إعداد أجيال فاسدة منذ أكثر من نصف قرن من الزمان ” » ..
ابتسم وسڪت.. بيد أنه ابدى تألما ما .. فنحن -الأثنين- ابناء هذا الجيل بأمتياز!

[ 21 ] « الخطة »
خطته أن يبدأ الحديث عفوياً دون إقحام أو إفتعال، يعيش „ رفيقي ” دائماً حالة معينة ڪأنه يصنع عالمه بنفسه ويلون دنياه بفرشته ويخطط المدن ويرسم الشوارع ڪما يريد ويهوىٰ، وهو يريد صنفا معينا من النساء، سيدات المجتمع اللآتي تعود عليهنَّ، منذ أن تعرف علىٰ السيدة « فَوْزِيَّة »، « „ الْإِسْكَنْدَرَانِيَّة ” » ونزيلة مصحته للتأهيل البدني ومن ثم النفسي هي بالقطع من طراز سيدة « „ الْإِسْكَنْدَرَانِيَّة ” ».. و بالقطع سيخبرني „ رفيقي عنها.. أو.. عنهما ” في الحديث القادم..
ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
رواية : «„ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ “ »
[ ١ . ] الجزء الأول.
١٨ « ليل طويل ساهر«
١٩: » القدر «
٢٠: „Tepidarium“ » «
ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ
‏الثلاثاء‏، 11‏ جمادى الثانية‏، 1444هــ ~ 02 يناير 2023م ~ ‏03‏/01‏/2023‏ 02:15:30 ص

ج3 2024 >>

ج2 2023 >>

ج1 2022 >>

كتاب & مراسلون

أوسترو عرب نيوز

شروط نشر الأعمال الفنية و الأدبية (المؤلفة أو المنقولة) فى أوسترو عرب نيوز :

عدم التعرض إلى (الذات الإلهية) .. الأديان السماوية .. المذاهب الدينية .. القوميات .

عدم التعرض بالسب أو الانتقاص من شخصية خاصة أو اعتبارية  .. بشكل مباشر أو بالتورية حال النقد .

أن لا ينشر فى أي وسيلة إعلامية صادرة بالعربية من النمسا .. خلال فترة النشر بـ أوسترو عرب نيوز .

أن يضمن المؤلف أو المراسل نشره فى النمسا مذيلا بعبارة : منقول عن أوسترو عرب نيوز (كلمة شرف)

ما ينشر في أوسترو عرب نيوز .. يعبر عن رأي كاتبه أو ناقله أو راسله ..
أوسترو عرب نيوز .. لا تتحمل المسئولية الأدبية أو القانونية .

أوسترو عرب نيوز .. تهيب بحضراتكم الإبلاغ عن أي تجاوز .. لعمل الإجراء المناسب على الفور .. بالحذف مع الاعتذار .

أعلى الصفحة


الموقع غير مسئول عن تصحيح الأخطاء الإملائية و النحوية

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
رئيس التحرير : أيمن وهدان




أخبار عرب النمسا